ليلة وراء ليلة...من الاجتهاد و الاستذكار و أيام لا تعرف غير العلم والتعلم، وكتاب وراء كتاب يأخذ مكانه فى نفس المكتبة التى لا تتنازل عن كرم ضيافتها لفكر جديد. مجرد خاطر لاحقنى ذات مساء، حين تصفحت كتاب «صلات بين العرب والفرس والترك» للعالم والمثقف الجليل حسين مجيب المصرى الذى نحتفل هذا الشهر بمرور مائة عام على مولده ونعتبره عصرا بأكمله. كانت مصر جميلة ورائعة حين ولد لأسرة متيسرة فى مارس عام 1916، فهو حفيد الباشوات، ثاقب باشا الذى كان يشغل منصب وزير الأشغال فى زمن الخديو إسماعيل، وحسنى باشا المصرى جده لأبيه. وهكذا منحته سعة العيش ورغد الأيام الفرصة لما هو أكثر حين تربى على يدى مربية نمساوية علمته اللغات الألمانية والفرنسية والإنجليزية فأصبح يجيدها، وحين تردد على محل للحلاقة يملكه رجل شامى أفهمه قيمة الشعر العربى. كان يمكن أن يكتفى المصرى بهذه النعم، وأن يعيش حياته متمتعا بمصادفات عرفتها حياته و كانت خيرا من أى تخطيط. إلا أنها كانت فى حقيقتها مقدمة لواقع مدهش وعلم أخر وأساتذة أخذ عنهم فى جامعة فؤاد الأول عندما التحق بقسم اللغات الشرقية وتعرف عن قرب على الثقافات الفارسية والتركية والأردية، وأتقن اللغتين الإيطالية والروسية ليقرأ بعشر لغات أتقنها كتابة و حديثا ليتعرف على كنوز الأداب العالمية، ولتتضح مبكرا مهمته فى هذه الحياة من وصل و تواصل مع ثقافات الشرق. مهمة كان لابد من القيام بها، فهى ليست مصادفة أو تعارفا عابرا أو حتى تعبيرا عن حب للاستطلاع، ولكنها رحلة عمر امتدت مع ثمانين مؤلفا تواصل خلالها مع أدب الشاعر فضولى البغدادى أهم شاعر تركى، وأبى أيوب الانصارى الصحابى الجليل الذى نزل الرسول صلى الله عليه وسلم ضيفا عليه فى بيته فى أول عهده بالمدينة المنورة وكان ممن انضموا لجيش أراد فتح القسطنطينية، وسلمان الفارسى ابن مدينة أصفهان صاحب فكرة الخندق، و الشاعرين أحمد شوقى أمير الشعراء ومحمد إقبال شاعر باكستان، وغيرهم من الشخصيات والأقلام وأصحاب المواقف الذين يجدر بنا التوقف عندهم و التعرف عليهم. رحلة طويلة وجميلة وشاقة لرجل أخرج عدة معاجم وكرمه أبناء بلاد الشرق، فى حين لم يحصل فى بلده إلا على مبايعة تلامذة له عميدا للأدب الإسلامى المقارن. حقيقة لم يكن وحتى فى أيامه الأخيرة محل تقدير من أهل مصر الذين جهلوا فقده لبصره من كثرة الإطلاع والتعلم. فلم يتنبه كثيرون أن بينهم عبقريا امتد عمره للثامنة والثمانين، وكان يتقاضى 190 جنيها فقط كمعاش من الجامعة، ينفق به على نفسه وبيته و كتبه و دوائه، ومع هذا ترجم القرآن الكريم وعمل خبيرا بمجمع اللغة العربية الذى لم يقبله عضوا، وكان أخر ما كتب مقدمة كتابه «الله جل جلاله فى الأداب العربية والفارسية والتركية.» ألف ليلة وليلة: بيت مصرى أخر يسكنه زوج وزوجة وأوراق ومكتبة، وعلى مكتب قريب نجد زوجة شهيرة تتابع كتاباتها. وكيف لا تكون وهى سهير القلماوى الابنة الروحية لعميد الأدب العربى د. طه حسين، وواحدة من أولى أربع فتيات إلتحقن بالجامعة المصرية، وأهم مصرية تحصل على درجة الدكتوراة فى الأدب عن «ألف ليلة وليلة». سبق وانفراد كما نطلق عليها بلغة الصحافة الا أن هذا كله لاينفى وجود مكتب آخر فى نفس البيت. هذا المكتب كان يجلس عليه الزوج يحيى الخشاب الذى شهد د. طه حسين على عقد زواجه من تلميذته سهير، وهو نفسه الباحث والأستاذ وصاحب القامة الذى لم يكن له الحظ الكبير من شهرة ومعرفة . يحيى الخشاب الذى لم أجد ما كتب عن سيرته، سوى مقال واحد كتبه د. إبراهيم خليل هو ابن حى الدرب الأحمر، وحفيد الشيخ عبد الرحمن قطب الزواوى مفتى الديار المصرية، وهو من حصل على ليسانس الأداب والحقوق فى زمن قصير لا يفصل بينهما سوى عامين فقط، فكان من آوئل المعيدين فى كلية الأداب، كما حصل على شهادة الدكتوراة من جامعة السوربون ولعب دورا مهما فى قسم اللغات الشرقية بجامعة القاهرة. هذا الرجل يحسب له اجتهاده فى تقديمه الثقافة الفارسية كمصرى شديد الانتماء لهويته، ولهذا يقول فى مقدمة كتابه «حكايات فارسية»: ليست هذه القصص ترجمة فى الواقع، فنحن لم نتقيد بالنص الفارسى، لأننا آثرنا أن نخرج هذه القصص إلى الأمة العربية بشكل أقرب ما يكون إلى نفوس أهلها. وفى مقدمة كتابه المترجم «سفرنامة» عن نص للرحالة الشهير ناصر خسرو يقول أستاذه د. عبد الوهاب عزام رائد الدراسات الشرقية «انى لأمل أن يتصل السعى ويستمر الدأب حتى تكون مصر مصدرا لأحسن ما فى الأداب الشرقية، وموردا لطلاب هذه الأداب من أقطار العالم كله.» كان يحيى الخشاب بهذا التجويد والدأب أستاذا يتذكر له تلامذته كتبه: «تنسر وتاريخ الكرد وكردستان وإسلام الفرس وإيران فى عهد الساسانيين و شرفنامة» بالإضافة إلى مراجعته لكتب عن تاريخ العالم القديم ، وترجمات لأعمال راسين وإدجار آلان بو، وهو مع كل هذا لا يعرفه الا من تعلم على يديه أو عمل معه فى الإدارة الثقافية بجامعة الدول العربية التى كانت تعنى وقتها التعرف على ما يحدث عند جيران العرب من ترك وعجم مهما كانت علاقتنا بهم تسوء أو تتحسن. الطرازى والصفصافى وزيدان: قصة أخرى يشير إليها خبر نعى صغير لأستاذ جامعى رفيع الثقافة والعطاء رحل فى أول أيام رمضان الماضى بعد أن حصل قبلها بيومين فقط على الجائزة التقديرية لجامعة عين شمس. هذا الأستاذ وللعجب هو نفسه د. الصفصافى أحمد المرسى القطورى أول معيد مصرى للغة التركية فى جامعة عين شمس، ومؤسس كثير من أقسام هذه اللغة فى الجامعات المصرية. وهو من كتب وقدم كثير المؤلفات والترجمات، وكان دافعه كما قال لى أحد الباحثين نوعا من الاصرار الشخصى لتعلم اللغة التركية التى لم تسجل بدايتها معه نجاحا كبيرا. ومع هذا فهو من قدم «إطلالة على ثقافة الترك وحضارتهم القديمة، أذربيجان بلاد النار والنور، قواعد اللغة العثمانية والتركية ومعجم الصفصافى ، ورحلة حجازية، اسطنبول عبق التاريخ وروعة الحضارة» وغيرها. اللغة التركية لا تعنى تراث تركيا وحدها، فلابد من قراءة ما كتبه أهل آسيا الوسطى فى أذربيجان وتركمانستان. فهى بلاد شغوفة بثقافة وأهل مصر مهما اختلفت السياسات، والدليل سماعه أم كلثوم تشدو فى أحد مقاهى اسطنبول فى الستينيات، وما قاله صاحب المقهى من أنه معجب بفنها لأن صوت مصر يسعده. نقول ولا تنتهى قصص الساهرين، فلدينا قصة نصرالله مبشر الطرازى القادم من آسيا الوسطى وترجمته ومراجعته بنود وثائق عثمانية أثبتت أن طابا مصرية وفهرسته ل23 ألف مخطوط فى دار الكتب المصرية، وعبد النعيم حسنين الذى قدم للشاعر الكبير نظامى وكتب عن العراق فى العصر السلجوقى وإبراهيم الدسوقى شتا وترجمته المثنوى لمولانا جلال الدين الرومى. لم ننته بعد، فكثيرة هى قصص الساهرين والمجيدين ، ولا أجد ختاما أفضل مما كتبه الشاعر الكبير أبو تمام مضت سنون بالوصال وبالهنا فكأنها من قصرها أيام ثم انثنت أيام هجر بعدها فكأنها من طولها أعوام ثم انقضت تلك السنون وأهلها فكأنها وكأنهم أحلام فهذا شاعر لم تجد د. عفاف السيد زيدان أفضل منه فى كتابها الممتع «مصرية فى بلاد الأفغان» ليصف حال أفغانستان الأخرى الجميلة والمستقرة التى عايشتها فى نهاية الستينيات. وربما تدل أيضا على حال الساهرين وحدهم الذين أختاروا أن يقرأوا فى هذه الأداب التى تمنى الراحل الكبير عبد الوهاب عزام أن تكون مصر موردا لأحسن ما جاء فى آدابها و ثقافاتها. ولكن ليسوا هؤلاء هم كل من نعرف... فلدينا فى بر مصر أكثر من قصة وإنسان كل فى مجاله، قدم ولم يحصد واجب الشكر والامتنان...ولنا عودة.