الذين اشتروا القرنفلات في الصباح, ووقفوا علي قبر الميت يبكون ويعددون إنجازاته ويحصون مآثره; كانوا يعلمون بأمر صور' عبد الناصر', و'غاندي', و'جيفارا' التي انتقي لها أوقر الجدران وعلقها بجوار المدفأة, وأنه كان يجلس ساعات يتأملهم, يحاول أن يستلهم منهم شيئا ما. الذين مروا من فوق النفق, كانوا يعلمون أن القطار قد جاء من محطة بعيدة, وأن تلك الضوضاء من أسفلهم لم تكن لصفارة القطار أوعجلات السير.. كانت لهم. ....................... الذين اشتروا القرنفلات في الصباح قرأوا كتبه عن الحمائم التي هجرت أبراجها وطارت, عن الملك الذي جز النخلة ليقيم مكانها شجرة' كاجو', وعن المدينة التي أحرقها أهلها قبل أن ينعم بها الغرباء. قرأوا مقالاته عن اللحم الحي المستساغ, وعن الأيام الغائمة, والمطر الشحيح. ....................... الذين مروا من فوق النفق كانوا يعلمون أن عربات القطار تفتح أبوابها كلما مرت بالمحطات. ....................... الذين اشتروا القرنفلات في الصباح لم يعلموا بأمر الثقب الذي ظل يتسع بجوار المدفأة, ولا بذلك الحلم الذي كان يرافقه أيامه الأخيرة. ....................... الذين مروا من فوق النفق لم يعرفوا أن البراغيث تدخل بصحبة الراكبين من الأبواب, تتعلق بأذيال جلابيبهم وفساتينهم وثنيات البناطيل. تلك البراغيث التي شغلت الشاب اللطيف ذا الوجه الممتعض عن امتعاضه بسبب الفئران الصغيرة التي كانت تقفز فوق الحقائب, والتي أفسدت علي الدرويش الجالس علي الكرسي الأول من العربة مناجاته: 'لبست ثوب الرجا والناس قد رقدوا وبت أشكو إلي مولاي ما أجد وقلت يا أملي في كل نائبة ومن عليه لكشف الضر أعتمد' ....................... الذين اشتروا القرنفلات في الصباح لم يروا الفأر الأسود الذي كان يأتيه في الظلام يمر من الثقب ويقضم أظافر قدميه, كل يوم إظفر حتي وصل للأخير. ....................... الذين مروا من فوق النفق لم يسمعوا مزمار الصعيدي الحزين, ولا غنوة الصبية ذات الجلباب الأسود: ' يا بت ياللي حمامك طار قومي اعمليلو بنية.. عملتهالو سبع تدوار رفرف ولا حط عليا' ولن يعرفوا أبدا أن البراغيث قد أربكت الجميع ماعدا محصل التذاكر الذي وقف يبتسم في خبث, ثم عاد للسائق ليكمل الرحلة. ....................... الذين مروا من فوق النفق ملوا انتظار خروج القطار من الجهة الأخري, فمضي كل إلي طريقه.. والذين أصروا علي الدعاء حتي النهاية لم يعلموا أن الميت كان يكتفي بالكتابة, ولم يروا شبحه فارا من القبر, راكضا باتجاه النفق, تاركا جسده يتلقي المديح...