فى المنزل الذى ولد فيه الزعيم الصينى «ماو تسى تونج»، تأملت طويلا فى حجرة نومه البسيطة، ففى هذا المكان كانت البدايات الأولى لشخصية تركت بصماتها على التاريخ البشرى، وخاصة فى الصين.. لاحظ المرافق الصينى ذلك ، فقال لى وكأنه يكمل سلسلة أفكارى: «لقد كان ماو يسبح فى النهر الذى هناك يوميا ويقطعه ذهابا وأيابا كى يذهب إلى مدرسته».. إن شيئا لا يمكن أن يعوق إنسانا من تحقيق أهدافه إذا توافرت لديه الإرادة، وذلك درس صينى مؤكد... ربما عرفنا فى العالم العربى أحيانا بعض معاناة البحث عن هوية، وأحيانا البحث عن رؤية، وتعذبنا متأرجحين بين نظريات كتبها غيرنا، وتطبيقات أصابت بعض النجاح هنا أو هناك، ولكن لا أحد يمكنه الادعاء أنه أنتج نظرية متكاملة أو أنفذ تطبيقا ناجحا.. نظرياتنا نقلناها بالمسطرة من نظريات مستوردة.. وتطبيقاتنا مسخ مشوه لتطبيقات لا تصلح لظروفنا وأوضاعنا الموضوعية.. فى الصين، لم تعد هذه المتاهة تمثل أولوية فى خطط الحزب الشيوعى الصينى، ومع ذلك فقد كانت أكثر الجمل ترديدا على ألسنة المسئولين الصينيين هى جملة: «اشتراكية ذات خصائص صينية»، أى أنها لا تزال اشتراكية، لكنها ترتدى أزياء صينية . ولقد أثار ذلك موجة من التعليقات بين أعضاء الوفد العربى الزائر فى بكين ، فبالإضافة إلى «باب الينبغيات» الذى سبق لى التعرض له فى مقالى السابق، فإن بعض الوفد قد رضى بالوصف الصينى، وانتهز الفرصة كى يشيد بالحزب الشيوعى الصينى، وأمينه العام، وبأعضاء الحزب الأحياء منهم والأموات .. بينما ذهب البعض الآخر إلى الانتقاد الحاد لما يعد تحريفا وانحرافا عن الأصول الماركسية ، وانقض هؤلاء على المضيفين بسيوف حادة مسلطة انهالت على التطبيق الصينى تمزيقاً وهى تقذفه برصاص «الينبغيات».. بينما ذهب فريق ثالث إلى معادلة بسيطة تتلخص فى أنه إذا كان الهدف من أى نظرية سياسية اقتصادية اجتماعية هو تحقيق السعادة والرفاه للبشر، وإذا كانت الصين تحقق ذلك بالفعل، فأيا ما كان شكل الإطار النظرى للتطبيق، فإنه مقبول، ولا يمكن أن تلام الصين على نجاحها!! .. تحدث أحد المسئولين الصينيين بإسهاب عن المسار الذى اتخذته الصين من أجل إصلاح النظام السياسى والإدارى، وتناول العناصر الرئيسية لذلك الإصلاح، مؤكدا فى كل لحظة الخصائص المتفردة لذلك الإصلاح الذى بدأ منذ حوالى 30 عاما، من خلال خطط خمسية متتالية، ولكن ذلك المسئول وغيره ركزوا على نتائج واستخلاصات المؤتمر الثامن عشر للحزب الشيوعى الصينى . لقد شرح ذلك المسئول أن أهم التحديات التى تواجه الاقتصاد الصينى حاليا هى بطء الانتعاش الاقتصادى العالمى، وبطء النمو فى الطلب المحلى والاعتماد المفرط فيه على الاستثمار، وكذلك التحرك البطئ فى إعادة تشكيل الهياكل والأنماط الإدارية لمواكبة التغيرات الحادة التى تمر بها الصين، حيث شهدت تحولات جذرية انتقلت خلالها من كونها مجتمعا زراعيا فى الأساس إلى مجتمع صناعى، بل وتحولت المناطق الريفية إلى مناطق حضرية ، بكل ما يحمله ذلك من تعقيدات وتحديات اقتصادية واجتماعية وثقافية . وفى لقاء مع أحد كبار خبراء الإدارة فى الصين، تحدث عن أهم المشكلات التى تواجه الإصلاح حاليا، مركزا على نمو حالات تجاوز الصلاحيات، وتداخل تلك الصلاحيات مع المسئوليات ، وأحيانا بشكل يؤدى إلى انقطاع الصلة ما بين الصلاحيات والمسئوليات، وتترتب على ذلك ظاهرة آخذة فى التنامى وهى «التحلل من المسئولية»، وغمز المسئول الصينى عينه وقال ضاحكا: «وهذه أى التحلل ليست صفة صينية». لذلك فإن الصين قد اتخذت بعض القرارات الثورية، منها إلغاء بعض الوزارات وتخفيض عدد كبير من الأجهزة واللجان النوعية، ومن ذلك مثلا إلغاء وزارة السكك الحديدية واستبدالها بشركة الصين العامة للسكك الحديدية، وإنشاء لجنة الصحة وتنظيم الأسرة الوطنية، وتأسيس المصلحة الصينية العامة لإدارة الغذاء والدواء، كما تم إنشاء إدارة الدولة للصحافة والنشر والإذاعة والسينما والتليفزيون ، كذلك تم تشديد إجراءات ومتطلبات الترقى الوظيفى ، وفى الوقت نفسه تم نشر مفاهيم للإدارة التى تتميز بالبساطة والكفاءة واللامركزية . «اشتراكية ذات خصائص صينية»..؟؟ ظلت هى السؤال المؤرق لأعضاء الوفد العربى الزائر للصين، ورغم أنه لا يمكن تلخيص كل ما كرره الخبراء الصينيون مرات ومرات فى محاولة لإقناع الوفد بأنها لاتزال «اشتراكية» ولكنها «ليست بالضبط ماركسية»، فإنه يمكن القول إن التجربة الصينية الجديدة تتمثل فى الإصلاح التدريجى الذى يسعى دائما إلى ممارسة التجارب والتأكد من نتائجها قبل تعميمها والشروع فى تنفيذها، وهو إصلاح يجمع ما بين اتجاهين، أحدهما من أعلى إلى أسفل يتعلق أساسا بالتصميم وبلورة الأفكار، والآخر من أسفل إلى أعلى يتعلق بالاكتشاف والمبادرة والابتكار والتجريب، وكما اتضح من المناقشات مع المسئولين الصينيين، فإن الخصائص الصينية تنطلق أساسا من ظروف الصين الواقعية، لكنها لا تهمل فى الوقت نفسه التجارب الدولية، ومن خلال هذه الضفيرة تجدل الصين ما تتمنى أن يكون إصلاحاً متناغما فى مختلف المجالات بحيث تهدف دائما لأن تكون كل خطوة إلى الأمام محققة لمصالح جموع الشعب الصينى . ردا على سؤالى، أجابت مسئولة صينية كبيرة بأن مصدر اتخاذ القرار الاقتصادى فى الصين أصبح يأتى من اتجاهين، أحدهما الاتجاه الحكومى، والآخر هو اتجاه السوق، قلت لها محاولا تقمص إحدى لحظات «الينبغيات العربية»: «ألا يعنى ذلك أنكم تحاولون ترويض حصانين جامحين، كل منهما يجرى فى اتجاه عكس الآخر» .. أحنت السيدة رأسها لبرهة ، ثم قالت حائرة : «تلك هى المعضلة الصينية».. غادرت اللقاء بعد مناقشة طويلة لكننى كنت أفكر فى «المعضلة».. لماذا يصر الرفاق فى الصين على أن تكون «اشتراكية» ذات خصائص صينية، لماذا لا تكون «رأسمالية» ذات خصائص صينية ؟ وذلك على أى حال حديث آخر . مساعد وزير الخارجية الأسبق لمزيد من مقالات السفير معصوم مرزوق