بحجم ما حظى به الدكتور بطرس بطرس غالي، من اهتمام الصحافة العالمية والمحلية فى حياة حافلة بالإنجازات فى شتى المجالات، بقدر ما أتاح رحيل العالم والسياسى والدبلوماسى والإعلامى الفذ، لتلاميذه ومحبيه، وللأكاديميين والقانونيين، باستعراض سيرته الذاتية، وفكره وإنسانيته النادرة، وضميره الوطنى إزاء القضايا الكونية والإقليمية، وبلورة إخلاص ابن النيل لوطنه مصر.. استحوذ الدكتور غالى على اهتمامى على مر عقود عملى الصحفي، وفى كل مرة كنت أذهب إليه كان يبهرنى بمعلوماته وتحليلاته المشفوعة بولع التاريخ والجغرافيا، وعلوم الاجتماع والمستقبل الذى كان يستشعره بفضل ملكاته الفريدة، لقد أغدق عليّ دائما بالحوارات والكنوز المعرفية الثمينة فى مجالات السياسة والثقافة كأحد أكبر مثقفى العصر.. وأنزه المفكرين، كان معجبا بالمصلحين المصريين الذين فتحوا الحوار بين الحضارتين المصرية والفرنسية، وأثروا الحركة الوطنية المصرية من الطهطاوى إلى محمد عبده والكواكبي، ومصطفى كامل الذى نقل بمساندة الأديبة الصحفية جولييت آدمز القضية الوطنية المصرية الى قلب المجتمع الفرنسي، ولن يكون غريبا أن يتمزق حزنا على حرق المجمع العلمى وقبلها مقر المجلس القومى لحقوق الإنسان.. حيث أتلفت النيران كتبه الموسوعية!، لم يكن غريبا أن تؤهله قدراته المعرفية، بأن اتصال مصر بفرنسا كان نقطة تحول جوهرية فى تكوين الأفكار السياسية والاجتماعية الحديثة فى مصر.. وأن يتولى منصب أمين عام منظمة الفرانكفونية بفضل تقدير الرئيس الأسبق شيراك له، ثم بعد ذلك رئاسة المجلس القومى لحقوق الإنسان. من أهم ما أدلى لى به الدكتور غالى أيضا، بمناسبة عيد ميلاده التسعين، أن أهم تحديات القرن الحالى هى ثورة تكنولوجيا المعلومات، محذرا من استمرار الشركات الكبرى فى استغلال ونهب ثروات إفريقيا.. كان متابعا جيدا لكل ما يجرى فى السودان والصومال ومالى وساحل العاج، مشيرا الى أن الدول التى تنفتح على إفريقيا مثل الصين واليابان، هى التى تستفيد من مواردها، كان أول من حذر من أزمة المياه ودعا الى أهمية إيجاد منظمة تتولى الإشراف على نهر النيل فيما يتعلق بتوزيع المياه والكهرباء والملاحة، على غرار المنظمة التى تتولى الإشراف فى آسيا على نهر «الميكونج»! كان الرجل قلقا على الأوضاع المتردية فى المنطقة العربية، مشيرا الى أنها تمر بمرحلة اضمحلال، وأن المعوقات أمام عملية السلام لم تنته فهو لا يرى مخرجا لسوريا. وأباح لي، بأنه خلال توليه الأمانة العامة للأمم المتحدة، كان أمله كبيرا إزاء إصلاح المنظمة الدولية، وانما تبين له أن المجتمع الدولى يريد إبقاء الوضع على ما هو عليه! وأن الولاياتالمتحدة سوف تستمر فى السيطرة على العالم على مدى العشرين سنة المقبلة! أباح لى قبل الرحيل، بأن أصعب مواقف مر بها خلال مشواره السياسي، هى مفاوضات السلام مع الجانب الإسرائيلي، وتوليه الإشراف على الملف اليوغوسلافي، مشيرا الى أنه فى حالات كثيرة لم تنجح الأممالمتحدة فى تسوية سلمية لمشكلات العالم، مثل الصومال التى تلاشى وجودها عام 1990، والعراق وسوريا اللتين لم تجدا حلا حتى الآن. كان معتزا برئاسة تحرير جريدة الأهرام الاقتصادى فى الحديث عن مراحل حياته، حيث كانت أول تجربة صحفية له، أما المحطات السياسية المهمة بالنسبة له فكانت إبرام اتفاقية السلام مع تل أبيب، ومعالجة الخلاف بين تشاد وليبيا.. وإدخال مصر عضوا فى الفرانكفونية ليزداد حسب قوله نفوذها فى القارة الإفريقية! كان يقول العبرة ليست بالديمقراطية الوطنية وإنما الديمقراطية بين الدول، وكان مؤمنا بأهمية مشاركة «اللاعبين غير الدوليين» فى إدارة العالم، وأن فكرة «الربيع العربي» فكرة أوروبية، وأن الوضع أقرب الى «شتاء عربي»، وأن اضمحلال العالم العربى سوف يستمر عشر سنوات اذا تخلفنا عن الثورة التكنولوجية، كان يشعر بالحزن إزاء «فقدان مصر لدورها الإفريقي» بعد أن أصبحت جنوب إفريقيا تسيطر على القارة! ودعت «حكيم العصر» و«عبقرى ونزيه» الزمن بمنزله مرة وبمستشفى السلام، مرة أخرى قبل أن تصطحبه الملائكة الى دار الحق. رحم الله الفارس النبيل . لمزيد من مقالات عائشة عبد الغفار