على مقهى فى «نايس بريدج» وسط لندن، كان العشرات يتابعون عبر البث الحى من التليفزيون الرسمى الإيرانى نتائج انتخابات البرلمان وانتخابات «مجلس الخبراء» الإيرانى . لم يكن الجميع من إيران، البعض من سوريا ولبنان والعراق، فهذه الانتخابات لا تتعلق فقط بحرب توازنات القوى داخل إيران، والتصدى لمشكلات داخلية مثل الوضع الاقتصادى والبطالة وسوء الإدارة والفساد، بل تتعلق أيضا بدور إيران إقليميا ودوليا واستمرار الانفتاح على الغرب وبالتالى التعاون والتنسيق بشكل أفضل حول سوريا والعراق وتنظيم الدولة الإسلامية وباقى القضايا الإقليمية. ليست هناك خلافات جذرية بين الاصلاحيين والمحافظين حول الكثير من هذه القضايا والأولويات، الخلافات تنصب حول «وتيرة» أو «سرعة التغيير»، ففيما يريد التيار الاصلاحى -البرجماتى التحرك بسرعة فى تطبيع العلاقات مع العالم الخارجى سياسيا واقتصاديا وتوسيع الحريات داخليا، يريد المحافظون التحرك ببطء وبكثير من الحذر، خاصة حيال التقارب مع أمريكا والانفتاح الداخلي. وكانت انتخابات البرلمان و«مجلس الخبراء» هى المؤشر الذى ينتظره الجميع، اصلاحيون ومحافظون ومستقلون وبرجماتيون، للوقوف على ميول الشارع. فالمرشد الأعلى لإيران آية الله على خامنئى كان واضحا فى أنه يريد «برلمان مقاومة» يدفع خطر المؤامرات الخارجية، بينما كان خيار الرئيس الإيرانى حسن روحانى واضحا وهو «برلمان منفتح» يساعد الحكومة فى تأدية وظائفها بدلا من محاربتها. وجاءت مؤشرات الشارع حول أى تصور يفضلون واضحة لا لبس فيها، وهى أن الإيرانيين يريدون أن يعطوا روحانى «الحماية السياسية» اللازمة لمواصلة سياسات الإنفتاح على الغرب وفى الداخل وذلك بانتخاب برلمان ومجلس خبراء يتمتع فيه الاصلاحيون بوجود قوي. فقد حقق الإصلاحيون والبرجماتيون مكاسب هائلة لم تكن متوقعة. إذ فازوا بال 30 مقعدا المخصصة للعاصمة طهران فى البرلمان . كما حققوا مكاسب كبيرة فى المدن الكبيرة وعلى رأسها أصفهان ومشهد وشيراز وكرمان وتبريز، وعززوا وجودهم فى البرلمان الذى سيطر عليه المحافظون طوال ال12 عاما الماضية، ويتجه الاصلاحيون والمستقلون للفوز بأكثر من 50% من مقاعد البرلمان الجديد، وهذه أفضل نتائج يحققها الإصلاحيون فى البرلمان منذ 2004، وتعتبر مذهلة بالذات فى ضوء استبعاد عدد كبير من المرشحين الاصلاحيين من خوض الانتخابات ودعوة خامنئى الضمنية للإيرانيين بالتصويت للمعسكر المحافظ. أما فى انتخابات "مجلس الخبراء" المكون من 88 عضوا، والمنوط به اختيار المرشد الأعلى الإيرانى فى حالة وفاة خامنئى أو تخليه عن المنصب لدواع صحية، فتشير النتائج إلى أن الرئيس الإيرانى الأسبق هاشمى رفسنجاني، الحليف القوى لروحاني، قد حصل على أكبر عدد من الأصوات، يليه روحاني، وهو ما يعنى ان كليهما سيكون له صوت ودور مركزى فى الترتيبات المستقبلية لإختيار المرشد الأعلى الإيرانى المقبل إذا ما فرغ المنصب خلال الثمانى سنوات المقبلة هى فترة ولاية مجلس الخبراء. ونجاح الاصلاحيين يعود إلى الإستراتيجية التى اعتمدها روحانى فى هذه الانتخابات وهى تشكيل "ائتلاف عريض" من الداعمين والمؤيدين لروحانى وسياساته من الاصلاحيين والبرجماتيين والوسطيين المعتدلين والمستقلين وذلك لضمان تمرير سياساته بدون معارضة كبيرة من اكثر المحافظين تشددا، ولضمان أن القرارات المصيرية فى الفترة المقبلة سيكون حولها أكبر توافق وطنى ممكن، وفوق كل هذا تمهيد الأرضية للولاية الثانية لروحانى إذا ما قرر خوض انتخابات الرئاسة 2017. ولعب المستقلون دورا كبيرا فى حرمان المحافظين من الأغلبية فى البرلمان الجديد، فقد حصدوا نحو 20% من الأصوات، ومع ال30% من الأصوات التى حصل عليها الاصلاحيون يمكن تصور كتلة معتدلة برجماتية بين الطرفين فى البرلمان المقبل مواجهة للكتلة المحافظة. والمثير أن الكثير من هؤلاء المستقلين محسوبون تاريخيا على التيار المحافظ ومن بينهم رئيس البرلمان الإيرانى على لاريجانى الذى شارك فى هذه الانتخابات كمستقل والمرجح أن ينضم عمليا للكتل المؤيدة لروحانى خلال التصويت فى البرلمان على قرارات متعلقة بالاقتصاد أو تطبيع العلاقات مع الغرب. ونفس الشيء ينطبق على النائب المحافظ على مطهرى الذى شارك فى الانتخابات كمستقل، لكنه يميل لروحانى وسياساته. ويقول رضا مرعشى، الباحث فى «المجلس الوطنى الإيرانى- الامريكي» إن الخطوط الفاصلة بين الاصلاحيين والمحافظين دائما ما كانت تتمتع بالسيولة، موضحا "روحانى نفسه تجسيدا لهذا. فقبل 15 عاما لم يكن يعتبر اصلاحيا أو معتدلا، بل كان أقرب إلى خامنئى وتصوراته. اليوم يعتبر روحانى إصلاحيا معتدلا وهناك تباينات واختلافات بينه وبين خامنئي. هذا التوجه ظهر بجلاء فى هذه الانتخابات. فالكثير من المحافظين رفضوا خوض الانتخابات على قوائم المحافظين وفضلوا التنافس كمستقلين لأنهم باتوا أقرب إلى روحانى وسياساته داخليا وخارجيا ويريدون دعمها، والتنافس فى قوائم التيار المحافظ يمنعهم من هذا لهذا دخلوا الانتخابات كمستقلين". نتائج هذه الانتخابات التى لم يتوقعها أحد مهمة جدا بالنسبة للغرب، فربما تكون هذه أفضل فرصة للحوار مع إيران «منسجمة مع نفسها» وبدون حروب داخلية كبيرة أو صراعات بين المؤسسات النافذة. فخلال العقد الماضى سيطر المحافظون على المؤسسات الأساسية فى إيران (الرئاسة خلال حكم أحمدى نجاد، والبرلمان، ومجلس الخبراء) وأخذا فى الاعتبار أن خامئنى يميل إيديولوجيا للمحافظين، كما أن مصالحهم تتقاطع مع مصالح الحرس الثوري، يمكن تصور حالة التوترات الداخلية المكتومة فى إيران حيث لم يكن للتيار الإصلاحى صوت قبل انتخاب روحانى رئيسا فى 2013. اليوم المشهد أكثر توزانا، فهناك المرشد الأعلى والحرس الثورى ونحو نصف البرلمان بميولهم المحافظة المتشككة فى الغرب والمتخوفة من سرعة الاندفاع وفتح الأبواب من ناحية، وهناك مؤسسة الرئاسة وغالبية البرلمان وأعضاء جدد شديدى النفوذ فى مجلس الخبراء مثل رفسنجانى وروحانى لديهم تصورات مختلفة ويميلون أكثر للانفتاح وتطبيع العلاقات مع الغرب من ناحية أخري. هذا التوازن المحكوم بدعم شعبى هائل للتيار الإصلاحى البرجماتى هو بالضبط ما كان يحتاجه الغرب. ويقول دبلوماسى غربى بارز عمل فى إيران فى الثمانينيات وشارك فى المباحثات النووية ل"الأهرام" حول نتائج إنتخابات البرلمان ومجلس الخبراء:"هذه موسيقى فى أسماع الغرب. فوز روحانى وحلفائه بهذا العدد من مقاعد البرلمان ومجلس الخبراء رسالة واضحة من الإيرانيين لإدارة روحانى والغرب أن هذا هو المسار الى يريده الإيرانى العادي. روحانى الآن مدعوما ببرلمان مؤيد له، سيتحرك بطريقة أكثر ثقة فى سياساته وستتمتع إيران باستقرار سياسى فى ضوء هذه الانتخابات. والمستثمرون يبحثون عن الاستقرار خاصة فى دولة أجنحة الحكم فيها كانت فى حالة صراع أو خلافات ساخنة خاصة عند المنعرجات التاريخية. أكثر ما يهم الغرب فى هذا الانتصار الانتخابى هو تعزيز قوة الرئيس الذى حقق الاتفاق النووى مع الغرب. فهذا يعنى أن التحالف الاصلاحى سيواصل تطبيق التزاماته الدولية بموجب الاتفاق النووي، وهذا سيؤدى إلى رفع المزيد من العقوبات عن إيران وهذا سيقود لإيران أكثر استقرارا سياسيا واقتصاديا. فإيران سوق واعدة، مع عدد سكان اكثر من 80 مليون نسمة واحتياجات عاجلة , وعلى صعيد الملفات الاقليمية، يقول الدبلوماسى الغربي:«أعتقد أن تقوية روحانى وتياره ستساعده على أخذ قرارات مهمة فيما يتعلق بالتسوية فى سوريا على سبيل المثال، فمع بعض الضغط على النظام السورى من طهران يمكن بدء المرحلة الإنتقالية خلال الأشهر المقبلة». أيضا ينظر الغرب باهتمام بالغ لنتيجة انتخابات مجلس الخبراء، فتركيبة مجلس الخبراء ستحدد إلى حد كبير الترتيبات المستقبلية لمنصب المرشد الأعلى خلال السنوات الثمانى المقبلة فى حالة وفاة خامنئى أو تخليه عن المنصب لدواع صحية. وهذا مهم جدا إقليميا ودوليا، بسبب المكانة المركزية التى يحتلها منصب المرشد الأعلى فى السياسة الإيرانية. وعلى المستوى الداخلي، فنتائج الانتخابات مهمة أيضاعلى صعيد توازنات العلاقة بين مؤسسة المرشد ومؤسسة الرئاسة فى إيران. فخامنئى كان يطمح فى برلمان يسيطر عليه المحافظون وذلك لضبط سلطات روحانى والسيطرة عليه تماما كما فعل مع الرئيس الأسبق محمد خاتمي. فخامنئى لم يرتاح أبدا مع رئيس مستقل وقوي، لكن تحقيق الاصلاحيين والمعتدلين والبرجماتيين لتلك المكاسب يكبل خامنئى ويفسح الطريق أمام روحانى لتطبيق برنامجه لأول مرة بدون عقبات مفروضة عليه من البرلمان.