تحت دعوى حماية ليبيا من التحول إلى بؤرة إرهابية جديدة لتمركز تنظيم داعش فى الشرق الأوسط، تتوالى الاستعدادات الغربية لتبنى ترتيبات سياسية وعسكرية للقيام بتدخل دولى وشيك لضرب مواقع تنظيم داعش داخل الآراضى الليبية، بما تحمله هذه التحركات من تعقيدات أكثر لمشاهد الصراع فى ليبيا التى لا يزال فرقاؤها يتنافسون حول تشكيل حكومة الوفاق الوطنى التى نتجت عن اتفاق الصخيرات. وتشعر دول جوارها بضياع جهودها التى بذلتها فى سبيل تسوية الأزمة واستعادة الاستقرار فيها بصورة سلمية بعيدا عن التدخلات العسكرية الخارجية التى لا تخلو من تداعيات كارثية على هذه الدول، ومخاوف من انتقال قيادة تنظيم داعش من سورياوالعراق إلى شمال أفريقيا. خبرات سلبية وعلى الرغم من تباين وجهات النظر بين دول جوار ليبيا فى التعامل مع الأزمة الليبية، إلا أن اقتراح التدخل العسكرى الدولى لم يلق قبولا بين هذه الدول، فلم تنجح العمليات العسكرية للتحالف الدولى فى القضاء على تنظيم داعش فى العراقوسوريا، بل أفرزت أوضاع إنسانية ومادية كارثية، كما أن ليبيا شهدت مع بداية ثورتها فى فبراير 2011 تدخل من قوات حلف الناتو ولم ينتج عن هذا التدخل العسكرى سوى اندلاع الحرب الأهلية وانتشار الفوضى وفى طياتها الجماعات الإرهابية التى وجدت فى ليبيا سوق رائجة لتجنيد المقاتلين وشراء الأسلحة. وقد جددت دول جوار ليبيا خلال اجتماعها الأخير الذى عقد فى الجزائر فى ديسمبر الماضى تأكيدها الحل السياسى الذى اقترحته الأممالمتحدة بما يمثل قاعدة تضمن تسوية دائمة للأزمة الليبية وتمكن من الحفاظ على سيادة ليبيا ووحدته، وأن غياب أى حل للأزمة يصب فى مصلحة الإرهاب بمختلف شبكاته. كما حرصت هذه الدول على الإعلان عن رفضها للتدخل الدولى الجديد فى ليبيا، مؤكدة أن العمليات العسكرية ليست الحل الأنسب للحالة الليبية، واتخذت مجموعة من الترتيبات السياسية والعسكرية لمواجهة النتائج المحتملة لهذا التدخل، وخاصة ما يتعلق بانتقال العناصر الإرهابية إلى هذه الدول التى تخوض أغلبها حربا شرسة مع الجماعات الإرهابية المنتشرة فى مناطق من أراضيها والتى تنتمى بعض منها إلى تنظيم داعش. وكذلك النزوح المتوقع لآلاف المدنيين الليبيين وما يمكن أن يترتب عليه من مشكلات اقتصادية واجتماعية فى الدول المضيفة. هذا إلى جانب استمرار الأزمة السياسية فى ليبيا وما تحمله من أعباء على عاتق دول الجوار. تشكيك مصري فقد استمرت مصر على امتداد عامين فى تحذير العالم من خطورة تمدد داعش فى ليبيا وتداعياته الإقليمية والعالمية فى ظل صمت دولى غريب، حيث تتبنى مصر خيار التسوية السياسية للأزمة الليبية، وتتشكك فى الأهداف الغربية وخاصة الأمريكية من التدخل العسكرى فى ليبيا وخاصة أن هذه الحماسة لم يصاحبها مشاورة لدول جوار ليبيا الأكثر تأثرا بالأزمة. وأكد وزير الخارجية المصرى سامح شكرى أن ليبيا بحاجة لتشكيل حكومة موحدة قبل أن تختار الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبييون التدخل العسكرى ضد الألاف من مقاتلى تنظيم داعش فى البلاد. وأضاف شكرى أن هذه عملية يجب أن تكون بقيادة ليبية. وحدثت مشاورات بين الرئيس المصرى عبدالفتاح السيسى ورئيس حكومة الوفاق فايز السراج فى هذا الإطار. كما ترفض الجزائر هذا التدخل على غرار موقفها من تدخل حلف الناتو 2011، وكذلك التدخل فى مالى 2013، فقد أبلغ الرئيس الجزائرى عبدالعزيز بوتفليقة رئيس حكومة الوفاق الليبية فايز السراج خلال اجتماعهما فى فبراير الجارى، رفض بلاده فتح مجالها الجوى أمام الطائرات الحربية للتحالف الدولى المزمع تشكيله، وفى المقابل طلبت الرئاسة الجزائرية من المسئول الليبى تكثيف جهود الحوار الداخلى وتعزيز مستوى التنسيق الأمنى مع دول الجوار، وتعهد بوتفليقة بعدم الانخراط فى أى مسعى دولى لشن ضربات عسكرية بذريعة تمدد تنظيم داعش فى ليبيا. واعتقلت السلطات الجزائرية فى يناير الماضى أكثر من 270 مغربيا كانوا متجهين إلى ليبيا عبر الحدود الجزائرية، حيث دعا تنظيم داعش الراغبين للانضمام إلى صفوفه للتحول إلى ليبيا عوضا عن سورياوالعراق. مما يؤكد رغبة التنظيم فى التمركز فى الشمال الأفريقى. تضرر تونسي واعتبرت تونس أن تدخلا دوليا ضد داعش يعد تطورا ميدانيا خطيرا ستكون له تبعاته، وهو ما ظهر فى تأكيد الرئيس السبسى فى خطابه الذى ألقاه مؤخرا، على كون هذا التدخل فى صالح الدول الغربية وأن تونس هى الأكثر تضرر من هذا العمل وهذا يحتم التنسيق معها والتشاور قبل اتخاذ أى قرار. إلا أن تونس لن تغلق حدودها أمام تدفق الهاربين من تدخل عسكرى محتمل ضد داعش. وكشف وزير الدفاع التونسى فرحات الحرشانى عن رفض بلاده للتدخل العسكرى فى ليبيا مشيرا إلى أن آراضى تونس وأجواءها لا يمكن أن تستغل فى إطار أى عمل عسكرى ضد ليبيا. وكان وزير خارجية تونس قد طلب فى نوفمبر 2015 من الولايات المتحدة دعم بلاده فى مراقبة حدودها مع ليبيا. وأكملت تونس فى 6 فبراير الجارى، بناء منظومة حواجز على طول حدودها مع ليبيا بنحو 200 كلم من رأس جدير على ساحل المتوسط حتى الذهيبة إلى الجنوب الغربى من الحدود بين البلدين. وأشار وزير الدفاع التونسى إلى أن عسكريين من ألمانيا والولايات المتحدة سيشرفون بعد أشهر على تدريب الجيش التونسى على إدارة منظومة مراقبة إلكترونية على الحدود مع ليبيا. فى الوقت الذى تعانى فيه تونس من أزمة اقتصادية وتراجع فى النمو وصل إلى 1% هذا العام وتخشى من توقف الاستثمارات نتيجة انتشار الاحتجاجات والإضرابات وأجواء عدم الاستقرار. الهدف التالي أما دول الساحل الأفريقى المجاورة لليبيا وتحديدا النيجروتشاد فهى تخشى على استقرارها من تداعيات التدخل العسكرى والضربات ضد داعش فى ليبيا، وأن تتحول لهدف تال لتنظيم داعش بعد خروجه من ليبيا، فسوف تؤدى العمليات الدولية إلى هروب المجموعات الإرهابية جنوبا مما يشكل خطرا جديدا على هذه الدول التى لا تزال تواجه تهديدات من تنظيمات إرهابية أخرى، كتنظيم القاعدة فى بلاد المغرب الإسلامى وكتيبة المرابطون، هذا فضلا عن خوضها لحرب مصيرية ضد جماعة بوكو حرام، ومؤخرا قامت كتيبة المرابطون بعمليات نوعية فى مالى وبوركينافاسو. فى الوقت الذى تعانى دول الساحل الأفريقى من مشكلات اقتصادية وسياسية فى غاية التعقيد، مما ينعكس على قدراتها على استقبال لاجئين ليبيين فى حالة بدء الضربات العسكرية الدولية، فالنيجر تمثل أسوأ دولة فى تقرير التنمية البشرية الصادر عن الأممالمتحدة حيث تحتل - من بين 188 دولة- المرتبة الأخيرة فى هذا التقرير، تسبقها تشاد ثم اريتريا ثم أفريقيا الوسطى. وتؤكد النيجر أن عدم الاستقرار فى ليبيا يمثل تهديدا أكبر لدول منطقة الساحل وغرب أفريقيا من تهديدات جماعة بوكو حرام، وأنفقت هذه الدول 10 % من ميزانيتها السنوية على مدى الخمس سنوات الماضية لحماية أراضيها من الميليشيات المسلحة. كما تنظر هذه الدول للعمليات العسكرية الدولية ضد الجماعات الإرهابية التى قادتها فرنسا فى شمال مالى ولم تؤد إلى القضاء على هذه الجماعات، بل أدت إلى تحالف عدد من هذه الجماعات وانتشارها على نحو أكبر مع تزايد القواعد العسكرية الأجنبية فى دول الإقليم، حيث تتمركز فى النيجر وحدها قاعدتان فرنسيتيان احداهما عسكرية فى ماداما وأخرى جوية فى نيامى وقاعدتين أمريكيتين. وعلى هامش تدريبات سنوية تقودها الولايات المتحدة لمكافحة الإرهاب واستضافتها مؤخرا السنغال أكد الكولونيل ماهامان لامينو سانى مدير التوثيق والمعلومات العسكرية بالقوات المسلحة فى النيجر «تتحرك الدولة الإسلامية صوب جنوب ليبيا لتفادى الضربات الجوية المحتملة من التحالف الأوروبى». و»إذا حدث شيء كهذا سيتأثر الساحل الأفريقى بأكمله.» وقال الكولونيل قاسم موسى قائد المجموعة الخاصة لمكافحة الإرهاب فى تشاد «نقوم بإبلاغ الزعماء التقليديين والدينيين فى الشمال حتى يكونوا على استعداد لمنع داعش من القدوم إلى أراضينا»، مضيفا أنه تمت إقامة نقاط تفتيش قرب الحدود ضمن تدابير أمنية تحسبا لتسلل متشددين. فقد أعربت تشاد بالفعل عن قلقها من احتمالات التدخل العسكرى الدولى فى ليبيا وكانت قد نددت بالضربات الجوية التى نفذها حلف شمال الأطلنطى فى ليبيا فى 2011 وتعارض شن ضربات أخرى. قواعد الانطلاق وعلى الرغم من استمرار دول جوار ليبيا فى التأكيد رفضها لتدخل دولى جديد فى هذه الدولة، إلا أن هذه الدول بكل ما تعانيه من مشكلات خطيرة وخاصة مواجهاتها لقوى إرهابية مختلفة، لا تملك القدرة على إقناع الأطراف الغربية عن التراجع عن فكرة التدخل العسكرى فى ليبيا أو عدم فتح المجال الجوى الخاص بها لطائرات التحالف الدولى عند قيامها بالضربات، حيث يمكن أن تبدأ العمليات من خلال استخدام الطائرات الفرنسية التى ستنطلق من القاعدة العسكرية الفرنسية فى ماداما بالنيجر. وتتابع الدول الغربية وخاصة الولايات المتحدة التى خصصت 200 مليون دولار من الميزانية الجديدة لوزارة الدفاع الأمريكية لقتال داعش فى ليبيا ومناطق أخرى من شمال أفريقيا، ترتيبات اتخاذ قرار التدخل، متذرعة بتصاعد حضور التنظيم وتهديده للمناطق النفطية فى ليبيا القريبة من السواحل ومن ثم تهديده لإمدادات النفط الغربية وكذلك اقترابه من السواحل والعواصم الأوروبية، غير عابئة بما سينتجه هذا التدخل من تداعيات كارثية على الأزمة الليبية سواء ما يتعلق بالحوار السياسى بين الفرقاء الليبين، أو البنية التحتية التى ستتعرض للدمار من جراء الضربات العسكرية وستحتاج إلى إعادة إعمار، هذا فضلا عن نزوح الآلاف السكان من مناطقهم أو هروبهم للدول المجاورة، وكذلك ما ستعانيه دول الشمال والساحل الأفريقى التى ستظل فى حالة استنفار أمنى كبير استعدادا لما ستنتجه الضربات العسكرية من تحالفات جديدة لتنظيم داعش مع أتباعه فى أفريقيا. سيناريو مسبق وكأن هذا التدخل الدولى الجديد فى ليبيا هو جزء من سيناريو معد مسبقا، وأن ليبيا هى إحد محاوره الرئيسية فلابد من إتمامه حتى لا يظل الشمال الأفريقى بعيدا عن الحوارات المتعلقة ببناء «شرق أوسط جديد» ستضح معالمه عقب تسوية الأزمة فى سوريا وفى العراق بعد خروج داعش من الدولتين أو اختفائها، وأن تشكيل حكومة الوفاق الوطنى المتعثرة هو إحدى خطوات هذا التدخل، فمن المفترض أن توافق أو تطلب هذه الحكومة التدخل الدولى الجديد، إلا أن العديد من الدول الأوروبية لا تعول على هذا الشرط، فى حين تتمسك به الولايات المتحدة حتى الآن. كما أن التدخل العسكرى فى ليبيا سوف يحقق العديد من أهداف الدول الغربية وخاصة فرنسا التى تعتبر أفريقيا منذ مجئ هولاند للرئاسة 2012 مجالا حيويا لاستعادة نفوذها الدولى، وتسعى لنشر قواعد عسكرية جديدة لها فى القارة، كما يمكن أن يعيد هذا التدخل روسيا مجددا إلى دائرة الأزمة الليبية بالاشتراك فى محاربة تنظيم داعش فى ليبيا على غرار ما تقوم به فى سوريا.