يقال إن أول عربي وطئت قدماه أرض اليابان، كان مصريا صعيديا. وإنه وقليل سبقوه، من أوائل المسلمين الذين اتصلوا بهذا الشعب الواقع أقصى مشارق الأرض، وكان ممن لهم كبير الأثر الإسلامي هناك. هذا الصعيدي المصري العربي المسلم، يدعى علي الجرجاوي، أوالشيخ علي الجرجاوي، أوالشاعر أوالرحالة، وهوابن قرية أم القرعان بمركز جرجا التابع لمحافظة سوهاج بصعيد مصر. لايعرف على وجه التحديد متى ولد، غير أن بعض السير تؤكد أن ولادته كانت في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، فيما كانت منيته في عام 1961. في السنين الأولى من حياته وكما جرت العادة آنذاك، انتظم في الكتاب بقريته، وفيه تلقى تعليمه الأول للقراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم. تشتهر جرجا بمعهدها الأزهري العتيق، الذي يعود إنشاؤه إلى عام 1596. ومن هنا فقد اشتهرت هذه المدينة بعلماء الأزهر المخضرمين، ومنهم من تلقى الجرجاوي على يديه العلوم الشرعية وعلوم اللغة، قبل أن ينتقل إلى القاهرة، للإلتحاق بالأزهر الشريف لإكمال دراسته. في عام 1907، أُنشئت مدرسة القضاء الشرعي تحت إشراف شيخ الأزهر. وكان الغرض من إنشائها تخريج قضاة شرعيين، ومحامين ومفتشين في المحاكم. عقب إنشائها مباشرة التحق بها الجرجاوي، وتخرج منها للعمل في المحاماة أمام المحاكم الشرعية التي كانت منتشرة آنذاك، قبل إعادة هيكلة نظام القضاء. قبل ذلك أنشأ الجرجاوي، صحيفة الإرشاد في عام 1899، وتمرس على العمل الصحفي، الذي فتح له مجال الاتصال بالعالم الخارجي، ومنه كانت بداية رحلته إلى اليابان. في عام 1909، ساهم في إنشاء الجمعية الأزهرية، التي كانت بمثابة مرتكز للأزهرين المعارضين لسياسات الحكومة والإدارة الإنجليزية، خصوصا وقد بدا أن للشيخ ميول قوية للثورة العرابية أظهرتها كتاباته. في عام 1907، ألف الجرجاوي كتابا أسماه "الرحلة اليابانية"، يعرض فيه تفاصيل التفاصيل في رحلته إلى اليابان، دوافع الرحلة وأسبابها ونتائجها، كل ذلك معروض في الكتاب الذي صنفه مؤلفه تحت أدب الرحلات. بعد أكثر من عام علي الحرب التي دارت رحاها بين اليابانوروسيا، والتي سعت فيها روسيا إلى بسط نفوذها على كوريا، استطاعت اليابان إنهاءها لصالحها، فيما عرف بمعركة تسوشيما. هذه المعركة ألقت الضوء على اليابان، الدولة الصغيرة حجما، بإعتبارها قوة صاعدة ستلعب دورا كبيرا في منطقتها، ولعل بعض الأرقام الإحصائية ستوضح لك أهمية هذه الحرب، فعلى سبيل المثال، استطاعت اليابان ب16 قطعة بحرية عسكرية، إغراق أكثر من 21 من مثيلاتها الروسية، وفي مقابل 116 جنديا يابانيا، سقط نحو 4 آلاف و500 جندي روسي. هذا ويشار إلى أن خسارة روسيا القيصرية المدوية في هذه الحرب، كانت واحدة من إرهاصات الاضطرابات التي أودت نهاية إلى الثورة الروسية. على إثر تلك الحرب، وفي إطار سعيها لإعادة رسم ملامحها الدولية، نظمت الإمبراطورية اليابانية لمؤتمر عالمي للأديان. ووجهت دعوات حول العالم لمشاركة ممثلين عن كافة الأديان في العالم، بغية الحضور والمشاركة في مناظرات المؤتمر. وفقا للمصادر المتاحة بين أيدينا، والتي منها كتاب الرحلة اليابانية للجرجاوي نفسه، فإن هدف اليابان من وراء هذا المؤتمر، كان المقارنة بين أديان العالم، لإختيار واحد منها ليصبح الدين الرسمي الجديد لليابان، مواكبة لما هي مقبلة عليه من مرحلة جديدة في تاريخها. - قطعا لا يمكننا التثبت من صحة هذه الرواية، خاصة وأن الميثولوجيا اليابانية المؤسسة لذاكرة الشعب الياباني لا تزال كما هي منذ قرون - على كل حال وصل الخبر إلى الجرجاوي، فسعى حثيثًا عبر صحيفته الإرشاد، إلى الدعوة لتشكيل وفد من العلماء المصريين يكون له سبق في تمثيل الدين الإسلامي بالمؤتمر، وبحسب قوله في كتابه، فإن "مسلمو مصر أولى بأن يحوزوا هذه الفضيلة لوجود الأزهر بين ظهرانيهم". دعوة الجرجاني، لاقت صداها في عدد من الصحف "الإسلامية". لكنه في المقابل لم يجد مستجيبا لدعوته هذه، سوى أثنين هما الشيخ أحمد موسى المصري المنوفي إمام المسجد الكبير بمدينة كلكتا الهندية (وكان مبتعثا من الأزهر)، وآخر من تونس لم يرد ذكر اسمه في الكتاب. انتقل الجرجاني، إلى قريته أم القرعان، وباع ما بحوزته من أملاك، وهي 5 فدادين، ليستخدم أموالها نفقة على رحلته التي استغرقت نحو شهرين، عاد ليحكي تفاصيلها الدقيقة في كتابه المتقدم ذكره "الرحلة اليابانية". يبدأ الجرجاوي حديثه عن رحلته، منذ أن استقل القطار من القاهرة إلى الإسكندرية، حيث منها صعد الباخرة التي نقلته إلى اليابان، مرورا بالعديد من الأمصار. ويسهب في ذكر كل تفصيلة رآها، منذ خروجه من القاهرة. كما يعرج إلى الخواطر التي جاءته في أثناء رحلته، فيتوقف على التوصيف لبرهة، يتحدث فيها عن الخاطرة ويغوص قبل أن يعود مرة أُخرى إلى وصف معالم رحلته. وفي كل بلد ينزل فيه، يذكر طرفا من تاريخها، وعلاقاتها بالإسلام وكيف دخلها، أوعلاقاتها بالعالم الإسلامي إن لم تكن دولة إسلامية، حتى أنه فعل ذلك مع المدن المصرية التي مر عليها في رحلته بالقطار، وآخرها الإسكندرية. لم يتوقف عند ذلك في الوصف. لكنه أيضا اهتم بذكر طرف من عادات أهل البلد، أوما رآه فيهم، ومن أزيائهم، وعن مجالهم الثقافي والتعليمي. هذا، ويشار إلى أن جانبا من إسهاب الشيخ في وصفه للبقاع التي حط بها، هو ما اعترف به في مقدمة كتابه، من أن جزءا من دافعه لخوض غمار الرحلة، كان الاستكشاف والاطلاع على العالم. وأخيرا وصل الجرجاوي إلى ميناء يوكوهاما، وهناك استقبله شيخان أحدهما روسي والآخر صيني، صاحباه خلال رحلته في اليابان، والتي امتدت 32 يوما. بعد يومين من الراحة في يوكوهاما، انتقل الجرجاوي إلى العاصمة اليابانيةطوكيو، وفيها أقام للمشاركة في المؤتمر الذي حضر له. كما أنه استغل الإقامة هناك للدعوة إلى الدين الإسلامي. وقد أسس جمعية إسلامية استأجر مقرها من تاجر ياباني. ووفقا لما ذكره الشيخ، فإن أول ياباني أسلم على يده وكان يسمى "جازييف"، قد ساهم في ترجمة خطب إسلامية كان الشيخ يكتبها وينشرها على اليابانيين، ما يدفعهم لزيارة الجمعية، التي أعد فيها نحو 18 لقاء جامعا على مدار الأيام التي قضاها هناك. خلال تلك اللقاءات أسلم نحو 12 ألف ياباني، وفقا لما ذكره الجرجاوي نفسه. وكما عادته في الوصف المسهب، تكرر الأمر بمزيد إسهاب وتدقيق فيما يخص فترة مكوثه في اليابان. وأظهر الجرجاوي، إعجابا كبيرا بإمبراطور اليابان وقتها "متسوهيتو"، والذي أطلق عليه لقب الميكادو. في النهاية، كاد هذا الإمبراطور أن يسلم، لولا خوفه من انشقاق أمته على بعضها، وفقا لما أخبر به الجرجاوي في كتابه... لمزيد من مقالات ابراهيم النجار