تعقيدات وعثرات متعددة الجوانب والمستويات أصبحت هى السمات الأبرز لمسار التسوية السياسية للصراع الممتد فى سوريا منذ بداية الحراك الدبلوماسى الدولى المعنى بالأزمة بعقد مؤتمر (جنيف- 1) فى 30 يونيو 2012 وحتى الآن؛ نتيجة لانعدام وجود إرادة إقليمية ودولية قادرة على توفير فرص جادة وحقيقية لصياغة وصناعة تسوية توافقية بإمكانها إنهاء ذلك الصراع. فجميع الأطراف المعنية بالأزمة بمستوياتها المتعددة الداخلى والإقليمى والدولى تدرك تماما أن تداعيات ومخاطر الصراع لم تنتج حتى الآن «ضرورات» تدفع كل طرف منها إلى تقديم تنازلات للطرف الآخر، باستثناء المخاطر الخاصة بانتشار الإرهاب وتوسعه، فهى وحدها المخاطر التى تدفع نحو تفعيل الحراك الدبلوماسى الدولى بشأن ملف الصراع السورى وجعله فى بؤرة الاهتمام من حين لآخر. فعلى الرغم من الأجواء «شبه الإيجابية» التى صاحبت مؤتمر فيينا فى نوفمبر 2015، وما ترتب عليه من وضع إطار أممى عام لخريطة طريق التسوية السياسية للأزمة بصدور القرار 2254 فى ديسمبر 2015، إلا أن التسوية الفعلية لم تنضج مقوماتها المرتبطة بتوافق المصالح الإقليمية والدولية التى لازالت متعارضة إلى حد كبير؛ فهناك تعقيدات متعددة المستويات لاتزال تمثل جملة من العثرات التى بإمكانها جعل أى حراك دبلوماسى جديد - جنيف 3 مثلا- مجرد نصوص وبنود غير قادرة على التحول لواقع فعلى. أحد تلك التعقيدات ترتبط إلى حد كبير بقدرة ورغبة طرفى الصراع الداخلى النظام والمعارضة فى الجلوس مجددا إلى طاولة مفاوضات حقيقية وتقديم قدر من المرونة والتنازلات بشأن موقفيهما من التسوية الممكنة، وما يرتبط بذلك من وجود حالة «استعداد جادة» للتفاوض لدى الطرفين، وحتى هذه اللحظات قد تتوافر الرغبة فى التفاوض ولكن لا تتوافر القدرة على تقديم تنازلات فعلية. بقاء استراتيجي فبالنسبة للنظام لايزال يرفض فكرة رحيل رئيسه أو تفعيل النصوص الخاصة بتشكيل هيئة حكم انتقالية وهو الرفض الذى ظل موجودا منذ جنيف - 1 وحتى الآن، بل يمكن القول إن رفض النظام فكرة التضحية ببشار الأسد ستزداد مستقبلا نتيجة للتغيرات الحادثة على أرض الصراع الميدانى منذ مطلع العام الحالى لصالح النظام على إثر الدعم العسكرى الروسى المستمر، والذى بدا أكثر وضوحا فى التقدم الحادث فى ريف اللاذقية ومناطق جبل التركمان التى استعادها النظام من المعارضة بصورة شبه كاملة، وإن كانت المعارضة ترى أن التقدم الذى يحرزه النظام منذ يناير 2016 هو تقدم طفيف وأنها لم تخسر مدنا استراتيجية فعلية حتى هذه اللحظات. كما أن استعادة النظام لريف اللاذقية لا يخرج عن الخطة الروسية الإيرانية فى الحفاظ على سوريا المفيدة من السقوط وهو أحد الأسباب التى دفعت روسيا للتدخل العسكرى المباشر لدعم النظام. ووفقا لهذه المعطيات فإن النظام سيستمر على ما هو عليه من رفض كل نصوص مرجعيات التسوية الدولية بكل مؤتمراتها خاصة تلك التى تتضمن تشكيل هيئة حكم انتقالية وما يرتبط بها من نقل الصلاحيات التنفيذية من بشار الأسد إليها. تشرذم المعارضة أما بالنسبة للمعارضة فالتعقيدات تكاد تكون أكبر وأكثر تأثيرا فى موقفها من التسوية؛ فبخلاف حالة الانقسام والتشرذم وعدم فعالية الهيئات الممثلة لها واختلاف الرؤى بشأن «الصيغة» المثلى للتسوية وانعكاسات ذلك على موقفها التفاوضى أمام النظام، وعلى قدرتها انتزاع تنازلات فعلية وجادة منه، تأتى المعضلة (الجديدة / القديمة) المتعلقة بتشكيل وفد معارضة قادر على التفاوض الدولى حول الأزمة، والواقع يشير إلى أن هناك جملة من الأسباب التى تزيد من تعقيد التسوية لا تتعلق ببنية المعارضة نفسها وآليات عملها وإشكاليات فصائلها المسلحة فقط، وإنما تتعلق أيضا بطبيعة الداعمين الإقليميين للمعارضة من ناحية، وبالتحديد السعودية خاصة أنها استطاعت فى مؤتمر الرياض تشكيل هيئة تفاوض عليا شاملة ممثلين عن كل فصائل المعارضة السياسية والمسلحة. وتتعلق التعقيدات أيضا بطبيعة داعمى النظام وبالتحديد الراعى الروسى ورؤيته لوفد المعارضة الذى يجب أن يكون طرفا فى المفاوضات من ناحية ثانية، لاسيما بعد أن استطاع «استمالة» عدد من الشخصيات المعارضة غير المحسوبة لا على الائتلاف الوطنى ولا على هيئة التنسيق ومحاولته فرض تلك الشخصيات على وفد المعارضة فى أى مفاوضات دولية جديدة، يضاف إلى ذلك رؤية المبعوث الأممى دى ميستورا نفسه لتشكيل وفد المعارضة وهى الرؤية المستندة على أحد نصوص قرار مجلس الأمن رقم 2254 والذى منح دى ميستورا صلاحية إبداء الرأى فى تشكيل وفد المعارضة المنوط به خوض العملية التفاوضية خلال المراحل القادمة، هذه المستويات المتعددة من التعقيدات الخاصة بتشكيل وفد المعارضة تعد من أبرز معضلات واقع الصراع السورى وما يرتبط به من تسوية. الخلاف الروسى السعودى التعقيدات السابقة كانت أكثر انعكاسا مع عقد مؤتمر جنيف – 3 فى 29 يناير الفائت، حيث مورست على المعارضة السورية العديد من الضغوط لدفعها إلى القبول بفكرة توسيع وفدها المفاوض عن التشكيلة التى أقرها مؤتمر الرياض، وهى الضغوط التى مارستها موسكو ودى ميستورا معا، ما اعتبرته المعارضة محاولة روسية لتطويع مطالب المعارضة وربما تقليصهالصالح النظام وبموافقة ضمنية أممية ممثلة فى دى ميستورا، الأمر الذى دفع الهيئة العليا للمفاوضات الخاصة بوفد المعارضة - وفد الرياض- إلى تأجيل انضمامها للمؤتمر حتى 30 يناير الماضي، بل وإعلان رئيسها أن الوفد لن يكون فى جنيف إلا مع تحسين الأوضاع الإنسانية للسوريين على الأرض. وقد التقى دى ميستورا الهيئة العليا للمفاوضات الأحد وقرر الوفد حضور المؤتمر على أن يتناول الضمانات التى لا يمكن - من وجهة نظر المعارضة - البدء فى البحث عن تسوية سياسية فى ظل عدم الوفاء بها أو الالتزام الدولى بتحقيقها ومنها الفصل بين المسارين الإنسانى والسياسى والتمسك بمرجعية جنيف - 1 بدءاً من بحث تشكيل هيئة حكم انتقالية بصلاحيات تنفيذية كاملة، فى الوقت الذى رفض دى ميستورا اعتبار هذه الضمانات - أو ما أطلق عليه إجراءات حسن النية التى طلبتها المعارضة لحضور المؤتمر وبدء المفاوضات - شروطا مسبقة وإنما مقترحات يتم طرحها على طاولة المفاوضات مع النظام، إلى جانب القضايا الأربع الرئيسية وهى: وقف إطلاق النار، وصياغة دستور جديد، وإجراء انتخابات، ودخول المساعدات الإنسانية لمناطق الصراع المسلح للتخفيف من حدة اعبائه على المواطنين، ومكافحة الإرهاب. ومن المفترض أن تستمر جولة جنيف -3 لمدة عشرة أيام يتم بعدها عقد مؤتمر فيينا فى 11 فبراير الحالى لتقويم نتائج جولة جنيف وخطوات التفاوض المقبلة. المعارضة التى أخرت انضمامها للمؤتمر يوما كاملا كانت «مضطرة» فى النهاية للحضور على الرغم من محاولاتها تقليل حدة الضغوط التى تمارسها بعض القوى الدولية عليها بهدف تحديد أجندة مفاوضات تتوافق ورؤيتها للأزمة، وكذلك الضغوط التى فرضها تحويل بعض القوى الأخرى لمواقفها من دعم لها – الولاياتالمتحدة وفرنسا - إلى حياد يعتبره النظام انتصارا له، فرفض المعارضة للحضور يعنى تحميلها مسئولية فشل جولة جنيف- 3 حتى ولو لم يستجب النظام السورى لشروطها أو ما سماه دى ميستورا اجراءات بناء الثقة، وسيمنح النظام فرصة اتهامها بكونها سببا فى استمرار الأزمة. الأجواء السابقة على بدء جنيف -3 عكست خلافا روسيا سعوديا واضحا تركز فيما سبق ذكره بشأن تشكيل وفد المعارضة بين قائمة موسكو وقائمة الرياض لدرجة أن موسكو وضعت الأطراف المناوئة لدورها فى الأزمة السورية بين خيارين فيما يتعلق بتشكيل وفد المعارضة وهما: قائمة مختلطة من المعارضة المشكلة من قبل الرياض والشخصيات التى ترغب موسكو فى ضمها للوفد، أو التمثيل بوفدين أحدهما يتبع القائمة الروسية والآخر يتبع قائمة الرياض. الخيار الأول يبدو مستحيلا لسببين الأول، لاختلاف مرجعية التفاوض بين وفد الرياض وبين الشخصيات التى تريد موسكو إدخالها فيه والتى تعتبر موالية لبقاء الأسد، خاصة وأن الهيئة العليا للتفاوض تشترط موافقة الشخصيات التى تريد الانضمام إلى وفدها على مرجعية مؤتمر الرياض للمعارضة. أما السبب الثانى، فيرجع إلى رفض تركيا تمثيل الأكراد فى الوفد عبر ممثل حزب الاتحاد الديمقراطى الكردى السورى. ما رجح من حظوظ الخيار الثانى بتمثيل المعارضة بوفدين، إلا أن تمسك المعارضة - وفد الرياض- بموقفها الرافض للأجندة الروسية وتعليق مشاركتها فى المؤتمر لمدة يومين كان سببا مباشرا فى إفشال الرغبة الروسية بشأن وفد المعارضة الذى سيخوض مفاوضات غير مباشرة مع النظام عبر الوسيط الأممى حتى الجولة الثانية فى فيينا 11 فبراير الحالى. الخلاف الروسى السعودى انعكس أيضا فى اختلاف الرؤى بين الطرفين فيما يتعلق بنقطة جوهرية من المفترض أنها مطروحه للتفاوض والخاصة بتشكيل «حكومة وحدة وطنية» وليست «هيئة انتقالية « للحكم؛ فتشكيل حكومة وحدة وطنية أصبح طرحا مؤيدا من قبل روسياوالولاياتالمتحدة ودى ميستورا، وهو ما يعنى إقرارا دوليا ببقاء الأسد بل وعدم نقل صلاحياته لهيئة حكم انتقالية وما يحمله ذلك من تجاوز لمقررات جنيف -1، أما طرح الهيئة الانتقالية المدعوم من قبل السعودية وتركيا تعتبره الأطراف الداعمة للنظام فى طى النسيان تحت مبررات أن مسار فيينا والقرار رقم 2254 قد استبدلاه بطرح الحكومة الجامعة، وهو ما يتماشى مع رغبة موسكو فى إبقاء الأسد من ناحية، وصمت واشنطن التى بدأت ترى فيه شريكا لمحاربة الإرهاب من ناحية ثانية، وهى حقيقة لا تبددها التصريحات الأمريكية الصادرة هنا أو هناك بشأن فقدان الأسد شرعيته، والتى يتم ترويجها من آن لآخر وفقا لمجريات العلاقة مع كل من السعودية وتركيا واسترضاء لهما فى بعض المواقف. استمرار الصراع الوضع الراهن لمسار تسوية الأزمة السورية يؤشر على بقاء حالة الصراع بين النظام والمعارضة ومعسكريهما كما هى، فكلاهما لا يريد الإخلال الفعلى بواقع التوازن العسكرى الموجود على الأرض بما يؤدى إلى خلق معادلة سياسية جديدة الجميع غير مستعد لها ولتداعياتها فى الوقت الحالى؛ فالمعارضة المسلحة تكيفت إلى حد كبير مع واقع سيطرتها وإدارتها لمناطق واسعة من الأراضى السورية، والنظام يحاول جاهدا الحفاظ على سوريا المفيدة من السقوط، ويحاول كذلك عبر الرعاية الروسية العسكرية والسياسية انتزاع انتصارات على حساب المعارضة عبر الحراك الدبلوماسى؛ أى محاولته تحقيق سياسيا ما لم يستطع تحقيقه عسكريا على أرض الواقع، وبالتالى فإن عناصر التسوية السياسية مازالت غامضة لأن مصالح أطراف الأزمة مازالت متعارضة ومتباينة، الأمر الذى ينتج مزيدا من التعقيدات والعثرات التى تقف حائلا أمام أى تسوية ممكنة حالية أو مستقبلية.