التخصص مطلوب.. فليس كل أحد يصلح لأي منصب أو وظيفة أو ولاية.. رأينا ذلك في اختيار الله تعالى قائدا عسكريا لبني إسرائيل من بعد موسى، هو طالوت.. فالنبي مهمته الزعامة الروحية والدعوية والعلمية.. بينما المطلوب مفتقد، وهو القائد العسكري.. لذا قالوا "ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله".. فكانت "البسطة في العلم والجسم" هي المعيار المحكم في اختياره. فالرئاسات تحتاج إلى طاقة علمية وبدنية هائلة لا تتوفر لدى جميع الناس، وقد تزيد في بعضهم، وتنقص في آخرين، وبالتالي يجب أن نمنح الشباب فرصة كافية لتولي المناصب، بعد أن يكون كبار السن قد أخذوا فرصتهم بالتأكيد. قدوتنا في ذلك تأمير الرسول صلى الله عليه وسلم لأسامة بن زيد -رضي الله عنه- على رأس جيش يضم كبار الصحابة، إلى بلاد الشام، وهو إذ ذاك دون العشرين من عمره.. فكفاءته هنا شفعت لصغر سنه، بينما لو كان مجروحا في كفاءته -حاشاه- لما ولاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قيادة الجيش، وفيه من هو أكفأ منه، وأكثر خبرة. هنا لطيفة أخرى، هي ألا نسخر من أصحاب المهن البسيطة، فربما انطوت شخصياتهم على مؤهلات تفوق الشهادات، والأعراق، وتؤهلهم للصدارة والزعامة..فقد كان طالوت يعمل سقاء صباحا، ودباغا مساء..وبرغم ذلك اختير للمهمة الصعية المتمثلة في القيادة العسكرية لبني إسرائيل، في فترة حاسمة، ولحظة فارقة، من تاريخهم، وكان ذلك "اصطفاء" من الله. القبول والمحبة : هذا المعيار مشترك بين الناخبين والمرشحين، ذلك أن أساس العقد السياسي الذي تجتمع عليه الأمة هو التراضي، والقبول، والأُلفة.. قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، ويصلُّون عليكم وتصلون عليهم..وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم". (أخرجه مسلم). بل ورد في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أمَّ قوماً وهم له كارهون، فإن صلاته لا تجاوز ترقوته". (صححه الألباني)، فإذا كان هذا في إمامة الصلاة بعدد محدود من المسلمين، فكيف بالإمامة العظمى؟ إن القبول والمحبة كمعيار مشترك بين المرشحين والناخبين، والقادة والمقودين، والرؤساء والمرؤسين.. طريقه أن يكون الحاكم رقيق القلب، لين الحاشية، وأن يخفض جناحه للمؤمنين. هذه الصفات أشار إليها القرآن الكريم بقوله تعالى :"فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِين".(آل عمران:159) إنها آية جامعة لأهم ملامح القائد الناجح في الإسلام.. فحتى لو كان نبيا أو رسولا، لكنه ينطوي على لفظاظة، وغلظة القلب فسيؤدي ذلك إلى انفضاض الناس من حوله.. وعندما يحدث هذا الآنفضاض تفشل الأمة..لأن قيادتها ستكون في واد، وجماهيرها في واد آخر، فأي فشل أكبر من هذا؟ وللأسف، نُكبت أمتنا عبر التاريخ بنوعية من هؤلاء الحكام القساة غير الأسوياء.. ودفعت الثمن باهظا من دماء أبنائها وأرواحهم نتيجة يبوس قلوب الحكم، وغلظتهم. انظروا إلى أولئك الذين ابتليت الأمة بهم حديثا (مثل: صدام حسين ومعمر القذافي وحسني مبارك وزين العابدين بن علي وعلي عبدالله صالح وبشار الأسد وغيرهم).. كيف جمع بينهم الاستنواق أمام الأعداء، والاستئساد على بني وطنهم. فلا رقة تحركهم، ولا لين جانب يردعهم، تجاه رعيتهم، ومواطنيهم...وفي المقابل قد نجد رقة الحاشية في طباع أهل العقائد الأخرى، بينما لا نجدها في بني جلدتنا من "اللصوص المتغلبة". ونظرا لأهمية وجود الحب والمودة بين القيادة والرعية، والرئيس والمرؤسين.. اتخذ عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قرارا قد يراه البعض عجبا. لما اشتكى بعض أهل الكوفة أميرهم سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- عزله عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- مع أنه كان يعلم عدم صحة الشكوى، فسعد -رضي الله عنه- من السابقين الأولين إلى الإسلام، ومن العشرة المبشرين بالجنة. لكن مع ذلك رأى عمر-رضي الله عنه- أن يعزله عن الإمارة درءاً للفتنة بين الناس، وقطعاً لمادة القيل والقال في المجتمع، ووقوع الانقسام، والفرقة.. فهو "لم يعزله عن عجز أو خيانة".(البخاري)، بدليل أنه ذكره في أهل الشورى الستة الذين يختارون الخليفة من بعده، عندما طُعن، رضي الله عنه. لكن فقه عمر، وبُعْد نظره، وعمق بصيرته، وحرصه على الاستقرار السياسي، والتماسك الاجتماعي بين الراعي والرعية؛ دفعه لاتخاذا ذلك القرار الصعب.. فبمقدار الأُلفة والمحبة والثقة بين الطرفين (الراعي والرعية) يتحقق الاطمئنان ، والأمان، والسلم الاجتماعي. وإنما ينشأ ذلك من امتلاء قلب الحاكم الرشيد بالقدرة على العفو والتسامح والشفقة..حتى مع الأعداء.. تجسد ذلك في رد علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه- عندما سئُُل عن الخوارج (أهل النهروان) الذين استحلوا دمه، وأصحابه : أهم مشركون؟ فقال: من الشرك فروا.. قيل: فمنافقون هم؟ قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا.. فقيل له: فما هم؟ قال: "قوم بغوا علينا". (رواية طارق بن شهاب). والأمر هكذا، ورد دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم :"اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم، فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفِق به".(أخرجه مسلم). خطبة أبي بكر نموذج ترسي خطبة أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- بعد بيعة الناس له في المسجد النبوي خليفة للمسلمين.. معالم واضحة للحكم الرشيد في الإسلام، وتجسد نموذجا للرؤية المتكاملة لهذا الحكم. فقد حدد أبو بكر -رضي الله عنه- منهجه في الخطبة الأولى له بالحكم في كلمات بسيطة موجزة ..حددت أطر السياسة الداخلية والخارجية، ورسمت قوام برنامجه، وبينت معالم سياسته، وأوضحت رؤيته الإصلاحية للإدارة والحكم.. بحيث تقوم على الصدق والأمانة والعدل والمساواة، ومنع الظلم، وتوزيع الموارد بالسوية، ومراعاة مصالح الناس. فأبو بكر -رضي الله عنه- انتهج الردع بتبني الجهاد، والالتزام بالتدابير الوقائية.. بهدف نشر العدل، وبسط الخير، وإنزال السكينة، محددا مرجعيته في (طاعة الله والرسول). كما استعان بالناس، واستنهضهم لإعانته في مهمته، وحتى تغييره.. إن خرج عن تلك المرجعية، والقواعد. قال أبو بكر -رضي الله عنه- في خطبته :"أما بعدُ، أَيُّها الناسُ فَإِني قد وُلِّيتُ عليكم ولست بخيركم فإِنْ أَحْسَنْتُ فَأَعِينُونِي وإِنْ أَسَأْتُ فَقَوِّمُوني. الصِدْقُ أمانةٌ والكَذِبُ خِيَانَةٌ . والضعيفُ فيكم قويٌّ عندي حتى أرجعَ إليه حقَّه إن شاء اللّه، والقويّ فيكم ضعيفٌ عندي حتى آخذَ الحقَّ منه إن شاء اللّه. لا يَدَعُ قومٌ الجِهادَ في سبيل اللّه إلا خَذَلَهم اللَّهُ بالذُلِّ ولا تَشِيعُ الفاحشةُ في قومٍ إِلا عَمَّهم اللَّهُ بِالبلاءِ. أَطِيعُوني ما أَطَعْتُ اللَّهَ ورسولَه فإِذا عَصَيْت اللَّهَ ورسولَه فلا طاعةَ لي عليكم. قُومُوا إلى صلاتكم يَرْحَمْكُمُ اللّه".(سيرة ابن هشام، وعيون الأخبار لابن قتيبة). عودة إلى المعايير بعد أبي بكر؛ اختلفت طرائق اختيار الخلفاء الراشدين، مما يؤكد أن اختيار الحاكم في الإسلام يخضع للإرادة الحرة للناس، وأن الإسلام لا يفرض طريقة بعينها عليهم فرضا، وإنما يأتي الحاكم لحكمهم باختيارهم، وإرادتهم، وفي كل الأحوال يجب: استشارتهم، والرجوع إليهم، ونيل رضاهم. وفي هذا الصدد تؤكد حياة الرسول أنه -صلى الله عليه وسلم- مارس السياسية في جميع أوقات حياته، فكتب المعاهدات، ونظَّم الجيوش والسرايا، وشارك في القتال، وأقام القضاء، وتفقد الحدود، ووضع قواعد الاقتصاد، وأقام المؤسسات، وغير ذلك مما ينظِّم شئون الدولة. ولأنه "لا يُعرف الحق بالرجال، وإنما يُعرف الرجال بالحق"، فقد ابتليت الأمة بعد عهد الخلفاء الراشدين، لقرون عدة، بالنظم الوراثية المستبدة، لا سيما في العهدين الأموي والعباسي، خلافا لمعايير الإسلام، فأصبح الخليفة أو الحاكم بمقام ملوك الفرس والروم، وزاد من مركزية السلطة، وتراجعت مهامه من إمامة المسلمين، وقيادة الجيوش، والقضاء بين الناس، والإشراف على بيت المال، وتوزيع الموارد بالعدل، والحكم بالقسط، والمعاملة للرعية بالبر، وغيرها من المهام العظيمة، في العهد الراشدي، إلى الحفاظ على الحكم في بيت واحد، بل وعائلة واحدة، مما أنشأ وراثيات مستبدة، استمرت قرونا طويلة، وأضاعت على العالم خيرا عميما، ونورا مبينا. والآن ، بعد عقود من حكم هذه الوراثيات العضوض، والتحرر من أسر اللصوص المتغلبة، في العديد من البلدان الإسلامية؛ آن الأوان للاحتكام إلى معايير الحكم الإسلامي الرشيد؛ سواء بالشورى، أو العدل، أو الكرامة، أو الحرية، أو الإنصاف، أو المساواة، أو التداول السلمي للسلطة، وغيرها من المعايير والمبادئ الإسلامية، لحكم الناس، وقيادتهم، وفق اقتناعهم، واختيارهم المباشر، وإرادتهم الحرة. [email protected] المزيد من مقالات عبدالرحمن سعد