يعبر مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية عن مسيرة تطور وطن، شهد لحظات الحرب والسلام، وعايش فترات الثورة والإصلاح، وتتبع فترات "الفوضى" والاستقرار، لاسيما أنه سبق تأسيس ليس فقط مراكز مناظرة وإنما دول حديثة فى المنطقة العربية، إذ يكمل عامه الثامن والأربعين، مع بداية عام 2016، ليصبح أول وأبرز مراكز البحث والتفكير العاملة فى مجال الدراسات الإستراتيجية فى الشرق الأوسط، ليفتح حقبة جديدة فى مجال البحوث السياسية والاقتصادية فى مصر والمنطقة العربية، واستطاعت النخبة العلمية بمرور الوقت منافسة المراكز الغربية. فالقائمون على إدارته هدفوا منذ اللحظة الأولى إلى توظيف المعرفة العلمية فى مجال العلوم السياسية والاقتصادية ذات الأبعاد الإستراتيجية. فقد تأسس المركز فى عام 1968 بنصيحة من رئيس تحرير ومجلس إدارة الأهرام الأستاذ محمد حسنين هيكل للرئيس جمال عبدالناصر، بضرورة إنشاء مركز للتفكير العلمى لدراسة إسرائيل والقضية الفلسطينية والصهيونية بعد هزيمة مصر وسوريا والأردن على يد الجيش الإسرائيلي، وكانت النتيجة هى تأسيس مركز تحت اسم مركز الدراسات الفلسطينية والصهيونية بداخل مؤسسة الأهرام، ورأسه الأستاذ حاتم صادق لفترة من الوقت. أدوار مزدوجة ساهم باحثو وخبراء المركز بدور مهم منذ تأسيسه وحتى نهاية أكتوبر 1973 بإمداد صانع القرار السياسى والعسكرى المصرى بالمعلومات الأساسية والبدائل المقترحة للتعامل مع الدولة العبرية وخدمة القضية الفلسطينية. وبعد نهاية الحرب وبدء خطوات التسوية السياسية تحول المركز فى عام 1974 مع مديره الجديد حينذاك الأستاذ والمفكر السيد يسين، الذى شارك به منذ تأسيسه، إلى مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية، ليصبح مركزا للأبحاث، فضلا عن استمرار قيامه جزئيا بوظيفة مركز للتفكير وتقديم المشورة لأجهزة ومؤسسات الدولة فيما يخص القضايا الوطنية العامة التى تخص المصالح الوطنية المصرية ودرء التهديدات التى تواجهها وسبل التعامل معها، خاصة فى أوقات الأزمات الحادة أو فى مواجهة القضايا الحرجة. الاستقلالية والحرية وهنا تجدر الإشارة إلى أن المركز تمتع ومازال يتمتع باستقلالية كاملة فى إدارة نشاطه العلمي، ويحرص فى بحوثه على تبنى منهج نقدى لا يتوقف عند حد سرد المعلومات وتصنيفها وتحليلها، إنما يهتم بإبداء أرائه وتوجهاته إزاء المشكلات المثارة، ويتيح لباحثيه وخبرائه حرية كبيرة فى التعبير عن اجتهاداتهم، فى حدود قواعد المنهجية والموضوعية، وهو ما يأتى فى سياق البرنامج العلمى للمركز الذى يختلف من عام لآخر، وفقا لطبيعة التطورات المتلاحقة، سواء فى مصر أو الإقليم أو العالم، لاسيما أنه أصبح يواجه بيئة تنافسية كبيرة مع تزايد عدد مراكز الدراسات سواء فى مصر أو الإقليم، بصورة غير مسبوقة، سواء فى إطار المؤسسات الرسمية أو الجامعات والمعاهد الأكاديمية أو المؤسسات الصحفية، إضافة إلى ظهور مراكز دراسات مستقلة أو بالأحرى خاصة. وعلى مدى ما يقرب من نصف قرن، توسعت مجالات عمل مركز الأهرام لتشمل مختلف القضايا السياسية والإستراتيجية، بصورة متكاملة، سواء التى تخص النظام الدولى أو الوضع الإقليمى أو الحال العربى أو الواقع المصري، وهو ما انعكس فى الإصدارات التى خرجت من رحم المركز على مدى العقود الماضية. ومن أبرز تلك الإصدارات سلسلة الكتب، حيث صدر منها 190 كتابا، والتى غطت موضوعات متعددة من العلاقات الدولية والقضايا العربية والصراع العربي- الإسرائيلي، والقضية الفلسطينية، والقضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية لمصر، والتاريخ الحديث والمعاصر المصرى والعربي، وسلسلة كتيبات بلغ ما صدر منها 60 كتيبا، بخلاف السلاسل النوعية، التى تتعلق بالأحزاب السياسية والنقابات المهنية والمحافظات والوزارات، وإصدار دليل للجمعيات الأهلية ودليل للنخبة البرلمانية ودليل للحركات الإسلامية، وكذلك موسوعة للمصطلحات البرلمانية وسلسلة مفاهيم سياسية للشباب. تقارير استراتيجية كما صدر عن المركز أول تقرير استراتيجى عربى فى المنطقة وهو التقرير الاستراتيجى العربى حيث خرج إلى النور فى منتصف عام 1985، الذى نشر منه 27 عددا، ويكتب ويسهم فيه غالبية إن لم يكن كل خبراء وباحثى المركز، عاما بعد آخر، فضلا عن مشاركة خبراء وباحثين من الخارج، بما جعله واسع الانتشار ويعبر عن "ماركة تاريخية" بين صفوف النخبة الأكاديمية والبحثية، بتنوعاتها الجيلية وأطيافها السياسية ومآلاتها المهنية وإسهاماتها الفكرية، باعتباره أحد المراجع الأساسية فى الكتابات الأكاديمية الجماعية المنتظمة الصدور كل عام. وأصدر المركز أيضا أول تقرير اقتصادى متخصص وهو "تقرير الاتجاهات الاقتصادية الإستراتيجية" منذ العام 2001، ويعنى بتقديم دراسات تحليلية للقضايا الأكثر أهمية والتى من شأنها التأثير على مستقبل الاقتصاد العالمى والاقتصادات العربية والاقتصاد المصري، وصدر منه 15 عددا، وتقرير الحالة الدينية الذى صدر منه عددان. موجة إصدارات وقد شهد منتصف عقد التسعينيات من القرن الماضى إصدار المركز موجة من الدوريات الشهرية. ومن أبرزها "كراسات استراتيجية"، التى تصدر منذ يناير 1991، وتعالج قضية أو مشكلة أو أزمة تحمل أبعادا استراتيجية، وصدر منها 257 عددا.. ودورية "قراءات استراتيجية" التى اهتمت بترجمة أبرز المقالات فى الدوريات العلمية الغربية، وخاصة باللغتين الإنجليزية والفرنسية، وظلت تصدر بشكل منتظم من عام 1995 وحتى عام 2009. واهتم المركز بأوضاع دول الجوار الجغرافى مثل "مختارات إسرائيلية" وصدر منها 252 عددا، و"مختارات إيرانية" وصدر منها 180 عددا، و"شئون تركية" التى صدر منها عددان فقط. و"ملف الأهرام الاستراتيجي" الذى يحلل أبرز القضايا المثارة فى الإقليم أو العالم وتقدير تأثيرها على المصالح المصرية وصدر منه 233 عددا، وتوقف عن الصدور منذ منتصف عام 2014. كما يعطى المركز أهمية مركزية للتطورات الجارية فى مصر، حيث أصدر مجلة ربع سنوية "أحوال مصرية" فى خريف 1998، وظلت تصدر حتى الأن، وتهدف إلى دراسة الواقع المصرى بأبعاده المختلفة، ليبلغ إجمالى أعدادها 58 عددا، ودورية "بدائل" التى صدر منها 14 عددا، منذ صدورها فى أكتوبر 2010، وتهتم بالقضايا التى تشغل دوائر صنع القرار فى مصر، سواء كانت قضايا داخلية أو خارجية تتعلق بإقليم الشرق الأوسط أو بالنظام الدولي، وذلك بقدر تأثيرها على مصر. فضلا عن مجلة "الملف المصري"، وهو إصدار شهرى يهتم بتحليل التطورات السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية فى مصر، من خلال مقالات تحليلية يكتبها متخصصون فى الشأن المصري. ويعاود المركز إصدار مجلة "قضايا برلمانية" بدءا من يناير 2016، بعد توقفها فى ديسمبر 2000، والتى تهتم بتحليل التفاعلات الجارية داخل مجلس النواب. مصداقية بحثية وقد اهتمت هذه الإصدارات بالتحول من تقديم توصيفات وتحليلات إلى توجيه "إنذارات" مبكرة لما قد نشهده مستقبلا، وهو نمط من التحليلات المتقدمة التى يتضمن الوصول إليها الاهتمام ببناء القدرات للأجيال الجديدة من شباب خبراء وباحثى المركز، ليس فقط على التحليل الدقيق أو التشخيص السليم للقضية محل البحث وإنما عبر التمتع بأدوات أخرى تتمثل فى استخدام المؤشرات "الإجرائية" وتوظيف الإحصاءات والرسوم البيانية والخرائط التوضيحية والصور المعبرة وأطر المعلومات المركزة، وهى كلها أمور تزيد من "صدقية عمل المركز" واستقلاليته فى إطار مؤسسة صحفية قومية، لاسيما أن أجياله ينتمون إلى تيارات فكرية مختلفة ومدارس علمية متنوعة وتوجهات سياسية متباينة، مما يتطلب التحلى بالمهنية والمنهجية العلمية وتحييد الانحيازات السياسية. كما أنجز المركز العديد من المشروعات العلمية الجماعية، أجرى العديد من استطلاعات الرأى العام وفى فترة مبكرة، ونظم المئات من الندوات العلمية وورش العمل والحلقات النقاشية والدوائر المستديرة داخل وخارج مصر. بخلاف مساهمات المركز فى إصدارات الأهرام، والتى كانت فى بعض الفترات ثلاث صفحات أسبوعية حتى صارت الآن صفحة تصدر تحت عنوان "دراسات استراتيجية" فى صباح يوم الثلاثاء من كل أسبوع. سياسات بقاء وهنا، فإن مسيرة عمل مركز الأهرام تشير إلى أن لديه قدرة مذهلة على البقاء والتعايش مع الممانعة السياسية، فى عهود سياسية مختلفة. فقد كان المركز على وشك الإغلاق بسبب اختلافه مع نهج الرئيس السادات فى التسوية والسلام مع إسرائيل خلال النصف الثانى من التسعينيات، وتعرض نشاطه للتجميد النسبى لسنوات. وقد كان أحد الأهداف الرئيسية لبرامج عمل المركز، فى مرحلة لاحقة، هو تقييم أداء المؤسسات السياسية المختلفة فى مصر، وهو ما بدا مقابلا باتجاه يغلب عليه الممانعة والرفض والرغبة لوقف هذا الإنتاج العلمي، على نحو ما برز خلال عهد الرئيس الأسبق حسنى مبارك فى بعض المواقف الهادفة إلى تضييق الخناق على بعض باحثيه وخبرائه، لاسيما أنه تخرج من رحم المركز أعضاء بارزون فى حركة "كفاية". وقد تكرر ذلك بعد وصول الرئيس الأسبق محمد مرسى للحكم فى منتصف عام 2012، حيث تعرض المركز لعملية تجميد استهدفت وقف نشاطه وإجراء عملية إحلال وتبديل حتى يتوافق مع الخط العام للنخبة "الإخوانية". وهكذا استطاع المركز، بروح إدارته وإصرار باحثيه أن يبقى ويقاوم أعاصير، أدت إلى قيام ثورتين، وأسقطت نظامين، بما يمكنه من مواصلة مساره، الذى بدأه المؤسسون الأوائل منذ نصف قرن تقريبا، بحيث جاء من بين أهم 30 مركزا فى العالم، خلال السنوات الماضية، وتبوأ المكانة الأولى فى العام 2013 ثم المكانة الثانية فى العام 2014 فى المنطقة العربية، وفقا للتقرير السنوى الذى تصدره جامعة بنسلفانيا، انطلاقا من مؤشرات الجودة الأكاديمية والقدرة على ترشيد السياسات العامة والتاثير على التوجهات السائدة لدى الرأى العام وغزارة الإنتاج وحرية البحث العلمي، والقدرة على الاتصال مع مراكز أخرى. فمركز الأهرام ولد ليبقى وليتطور ليس فقط محليا وإنما إقليميا ودوليا.