يتردد أن تركيا رصدت مئات الملايين, وأعدت كل الدراسات لبث قناة تليفزيونية ناطقة باللغة العربية, يكون هدفها مخاطبة العرب من المحيط إلي الخليج بكل ما يدور في رؤوس صناع سياستها الخارجية. وضمن هذه الرؤية التركية هناك من يؤكد أن الطموح العثمانلي الجديد( ورغبة قادة تركيا اليوم في العودة إلي ربط أنقرة بجذورها الإسلامية) هو الدافع الأول وراء إنشاء هذه القناة التليفزيونية. والحق أن ما يعنيني ليس مناقشة أهداف تركيا ومحاولة عودتها إلي الجذور, وربما صرف النظر عن فكرة اللحاق بأوروبا والاتحاد الأوروبي, فلهذا الأمر مع أهميته القصوي سياق آخر.. ولكن ما يعنيني هو أن يصبح الفضاء العربي مستباحا من التليفزيون التركي, وقبله التليفزيون الأمريكي والفرنسي والألماني والإيطالي. أقول ذلك وفي ذهني قناة الحرة الأمريكية التي انطلقت مع إدارة جورج دبليو بوش السابقة لتبشر العرب بالجنة الديمقراطية المفقودة, وكذلك قناة فرنسا24 التي تعتبر لسان حال الجمهورية الفرنسية في المنطقة العربية, وفي الإطار نفسه هناك حديث متواصل عن قناة يابانية وأخري إيطالية وثالثة ألمانية ورابعة إسبانية. كل ذلك يحدث من حولنا ويستهدفنا عيانا جهارا ونحن جلوس وكأن علي رؤوسنا الطير, لا نتحرك ولا نكاد ننطق ببنت شفة... مؤلم هذا الذي يحدث, فأجواؤنا أصبحت بلغة العسكريين تحت مرمي البث الإعلامي الدولي!.. ومع يقيني الكامل بأن استهداف المنطقة العربية إعلاميا يعكس أهميتها الجيوبوليتيكية والاستراتيجية للعالم, لكن هذا لا يبرر علي الإطلاق أن نظل إزاء هذه الظاهرة مكتوفي الأيدي لا نحرك ساكنا. صحيح أن اتحاد الصحفيين العرب وتحديدا في زمن الراحل صلاح الدين حافظ قد نجح في أن يصد هذا الهجوم وخصوصا القادم من إسرائيل, فرصد المدسوسات الإسرائيلية التي تملأ خطابنا الإعلامي العربي, ووضع بالفعل قائمة تضم المصطلحات الإسرائيلية جنبا إلي جنب مع قائمة بالمصطلحات العربية الصحيحة, وحث جموع الصحفيين علي تنقية الخطاب الإعلامي من المصطلحات المؤسرلة!, والإنصاف يقضي بالقول إن حرب المصطلحات لم يحقق فيها الإعلام العربي إلا فوزا محدودا, إذ لا نزال لا نجد فروقا كبيرة بين ما تنشره الصحافة العربية وما تنشره الصحف العبرية الكبري مثل معاريف, وهاآرتس, ويديعوت أحرونوت! .. والحق أن هذه المعركة الشرسة التي يجد الإعلام العربي نفسه طرفا فيها لاتزال تتوالي فصولها, وأشكالها أمامنا( صباحا ومساء) دون أن نحرز فيها تقدما واحدا, بل لا نكاد ندرك خطورتها إلا بعد فوات الأوان! فقناة فرنسا24 لا هم لها سوي أن تكرس في عقولنا مبادئ لا تمت للسياسة الفرنسية اليوم بصلة مثل مبادئ حرية, إخاء, مساواة ثم لا تألو جهدا في تبرير سلوكيات التيار الساركوزي في السياسة الفرنسية الذي يتأسس علي مبدأ البراجماتية والشعور بالحنين لعودة فرنسا إلي أحلامها الإمبراطورية السابقة. والشيء نفسه لا يختلف كثيرا مع تليفزيون روسيا اليوم, وهو تليفزيون روسي ناطق باللغة العربية ويرمي إلي خطف مساحة من العقل العربي لحساب أفكار روسية هي, في الواقع العملي, امتداد لأفكار الاتحاد السوفيتي السابق وتبقي بالدرجة الأولي إعطاء السياسة الدولية بطاقة( إقامة) في الفضاء السياسي العربي. مرة أخري يبدو المشهد حزينا لأن كل هذه الفضائيات الأجنبية تنطق باللغة العربية لكي تكسب مساحة في عقول المشاهدين العرب, وتروج لأكاذيب وترهات برعت فيها مثلا قناة الحرة الأمريكية, لكن بالمقابل لا توجد منظومة إعلامية عربية موحدة لكي تقف بالمرصاد أمام هذه الهجمة التترية التي تشنها وسائل الميديا الدولية مع سبق الإصرار والترصد! والدليل علي ذلك أننا في المنطقة العربية والإسلامية أيضا لم نتمكن من الوصول ببعض من أفكارنا إلي العقل الغربي.. وهي أفكار لا تبغي سوي تصحيح المغالطات التي تختزنها العقول في أوروبا وأمريكا عن الإسلام مثلا.. وكلنا يذكر أن ظاهرة الإسلاموفوبيا وتعني الخوف المرضي وغير المبرر من الدين الإسلامي المختلف تجلياتها منذ كتاب آيات شيطانية لسلمان رشدي وحتي أزمة حظر بناء المآذن في سويسرا, مرورا بمقتل مروة الشربيني, وصدور كتاب اللعنة للكاتبة البنغالية تسليما نسرين, واتهام كل ما هو عربي مسلم بأنه إرهابي.. لقد فشلنا في مواجهتها إعلاميا, إذ اعتمدنا علي المونولوج.. أقصد الحوار الذاتي وأغفلنا الديالوج وأعني به الحوار مع الآخر.. فظل الحال يسير من سييء إلي أسوأ, فعادت الكلمة العنصرية الشهيرة ترتسم في الأذهان, وهي أن الشرق شرق, والغرب غرب, ولن يلتقيا. ولئن كان مبررا ألا نتقن فن الحوار والإفصاح عن الذات والدفاع عن حقوقنا المخطوفة ظلما وعدوانا, في وقت مضي فيه الإعلام لايزال أشبه بالمارد في القمقم, فاليوم وبعد أن تمدد هذا المارد وانتشر عبر المقروء والمسموع والمرئي, ووصل بأكاذيبه وإدعاءاته إلي عقر دارنا, لم يعد مقبولا ولا معقولا أن يظل إعلامنا يغط في نوم عميق. لقد بات يتعين علينا أن نرد علي هذه الفضائيات الأجنبية بفضائيات عربية خصوصا أن إنشاء فضائية لم يعد بالأمر العسير, والبرهان علي ذلك أن رجال أعمال من الحجم الصغير وليس العملاق, يملكون قنوات وفضائيات ويسيطرون علي فضاءات إعلامية كثيرة. بكلمة أخري: لتركيا وروسياوفرنسا وأمريكا أن تدخل عبر بثها التليفزيوني الناطق بالعربية إلي حجرات نومنا, فلا أحد بوسعه أن يقف في وجه هذه الطفرة الإعلامية, لكن المشين هو أن ندفن رؤوسنا في الرمال وكأن الأمر لا يعنينا.