كأن المصرى الأول كان عارفًا بالعلاقة الوطيدة بين الإنسان والفخار، لذا جعل الكبش »خنوم« يقوم بخلق الإنسان على عجلة تطابق »دولاب« الفخرانى الذى يصنع منتجاته عليه حتى الآن، حيث يعتمد الفخار على عناصر الطبيعة الأساسية، التراب والماء والهواء والنار. والفخار قرين المجتمع البشري، والطين شاهد على تطوره، حيث سُجلت عليه بالحفر مراحل التاريخ الإنسانى، ونُقشت عليه المعتقدات والعادات والتقاليد والطقوس، وما إلى ذلك من تفاصيل الحضارات، وظل الطين فى الوجدان الإنسانى هو الخامة التى صنع الله منها الإنسان، وورد ذكر الطين والصلصال والفخار فى أكثر من موضع بالقرآن الكريم. وفى المأثور الشعبى ارتبطت الأدوات الفخارية بأبجديات حياة الإنسان مثل الميلاد والزواج والموت، مثلما ارتبطت بالأعياد والمناسبات الدينية والرسمية، وبالمعتقدات أيضا مثل السحر، وبالاستخدام اليومى، وتزيين البيوت، والمساجد. وفى مصر نشأت أقدم حضارة فخارية، فى البدارى والعمرى ونقادة، وأماكن أخرى ضمَّت آثارا فخارية لعصر ما قبل الأسرات، وظل الفخار محتفظا بمكانته لآلاف السنين، إلى منتصف القرن العشرين تقريبا، حيث ظهرت أدوات وأجهزة حديثة قلَّصت الحاجة إليه، فشهدت صناعته انحسارا لأدنى مستوى، نتيجة انتشار أدوات منزلية من خامات أخرى مثل الزجاج والبلاستيك والمعادن، إضافة لانتشار الثلاجات والمبردات التى قضت على القُلل، والأهم هو عزوف أبناء الحرفيين عن مهنة آباءهم نتيجة لانتشار التعليم, ولأنها مهنة مُتعبة ومردودها قليل وغير منتظم. لكننا حتى الآن لا نعدم أصواتا مخلصة تطالب بالعودة للطبيعة، واستخدام الأدوات الفخارية فى الطبخ، وتخزين الطعام، لانعدام آثارها السلبية له على جسم الإنسان. وفى قرية »جريس« التابعة لمركز أشمون بالمنوفية، وتقع على فرع رشيد الذى يفصلها عن محافظة الجيزة، ما تزال صناعة الفخار من خاماته الأساسية هى النشاط الرئيسي. ويسمى التراب عندهم »الرتش«، وهو من فائض التربة الزراعية بعد الحصاد (ضم القمح، وقطع الذرة)،حيث يقوم الفلاحون بجمعه أثناء عملية »التقصيب«، وهى استبدال التربة السطحية للأرض بالسماد البلدي، ويراكمون منها أكواما على حواف الأرض، ويستخدم عادة فى »ترميد « الأرض تحت المواشى فى مكان نومها، بوضع الرتش تحتها لتكون منامتها جافة، وبعدما يتبلل يتحول إلى سماد، يتم جمعه وتخزينه لتقوية التُربة الزراعية بالتسميد، وبعد تراجع دور السماد الصناعى عادت شركات كثيرة الآن إلى التسميد الطبيعي، وبيع منتجاتها ( الأورجانك) بأسعار مرتفعة. وكان »الرتش« يستخدم أيضا فى صناعة الطوب اللبن فى السابق، ثم اختفى تماما الآن، بعد انتشار البيوت الخرسانية. الأهم أنه مايزال نسبيا يستخدم فى صناعة الفخار، فهو المادة الخام التى تتعرض لعدد من العمليات حتى تظهر المنتجات إذ يقوم الفلاحون ببيعه للفخرانية إما بالنقلة (على الحمار) أو بالمقطورة. ويحتاج التراب إلى قرينه الماء الذى بدونه لن يتم شيء،فبعدمايقوم الفخرانى بنخل التراب لاستبعادالشوائب والتراب الخشن، يضعه فى حفرة مستطيلة تسمى «البَلَّة»،وحين يصبح طينة يدهسها بقدميه، حتى تمتزج العجينة وتتجانس، ويتأكد من خلوها من أى حصى، ويتركها لوقت كاف لتتخمر، وتصبح ناعمة تماما، وأقرب إلى قوام الصلصال. وفى مرحلة التشكيل يجلس الفخرانى إلى «الدولاب»، ليخلق من العجينة كل أشكال الفخار المعروف. ويحتاج الفخار فى مراحل التشكيل إلى الهواء أكثر من الشمس التى قد تضره وتُشققه فى بعض الأحيان،فيقوم بعملية التجفيف الهادئ، فالقلل مثلا تتم على مرحلتين،«البادية» و«الترويس»، وفى الأولى يتم تشكيل جسم القلة، ويترك لست ساعات على الأقل، ثم تُستعاد إلى الدولاب ويتم تخريمها قبل تركيب الرأس، ثم يعيدها الصانع إلى الهواء حتى تجف تماما. والمرحلة التالية «حرق الفخار»، وكان الفخرانية يعتمدون فى السابق على حطب القطن أو الذرة، حتى توقفت زراعة القطن، فلجأ الفخرانية لتخزين حطب الذرة، والبحث عن بدائل أخرى مثل نشارة الخشب وبقاياه، وكان يتم توريد الحطب على الجمال والحمير، وعربات الكارو الزراعية حتى منتصف القرن العشرين، إلى أن حلَّت محلها الجرارات والمقاطير وعربات النصف. وعملية الحرق، أوالتطييب، وهى آخر مراحل إنتاج الفخار، تتم فى «الكوشة»،وهى قريبة الشبه بالقباب،لكنها مفتوحة من أعلى، وتنقسم إلى قسمين، «بيت النار» وفيه يتم وضع الحطب أو النشارة وإشعالها بشكل منظم ودقيق، و«الكوشة»التى يُرصّ فيها الفخار من أسفل لأعلى بنظام دقيق، ويدخل الفخرانى من تجويف فوق بيت النار ويخرج من قمة الكوشة، ويفصل بين القسمين ببلاطة مصنوعة من الطوب اللبن الذى يتحول بفعل النار إلى اللون الأحمر، على هيئة دائرتين؛ صغيرة فى الوسط يخرج منها خطوط غير متلاصقة كأنها أنصاف أقطار، ويضع بعض الفخرانية طبقة من الطوب اللبن فوق البلاطة لامتصاص حِدَّة النار الواصلة إلى الفخار أثناء عملية الحرق. ويُهيئ الفخرانى الفخار لاستقبال عملية الحرق الكاملة،بعملية «التعليل»، حيث يحرق حزمة من الحطب،ثم يقوم ب «تبييت» نشارة خشب، أى توزيعها على الحطب المشتعل، ثم يغلق بيت النار، ويترك الفخار اثنتى عشرة ساعة، ثم يكرر عملية «التبييت» لمدة يومين. وبعدهما يكون «يوم الحرق الكبير»، وفيه يقوم الفخرانى ب «التعليل»، ودفع الحطب قطعا صغيرة، وببطء لمدة ساعة تقريبًا، ثم يقوم ب«التزويد»،أى ملء بيت النار بالحطب أو النشارة، ويتركهالمدة اثنتى عشرة ساعة، وتتم عملية الحرق عادة بعد المغرب أو بعد الفجر. ويمكننا فهم منتجات الفخار بالنظر إلى برمجيات الكمبيوتر وتطبيقات المحمول؛ فكما يقدم برنامج «ward» حلا للكتابة، ويقدم تطبيق الخرائط إمكانية معرفة المكان، كان الفخار تكنولوجيا الإنسان الأولى، والآمنة، وأية أداة فى المنزل الآن هى بديل لمنتج فخارى كان يقدم الحل بشكل آمن وصحي.