تمثل الطقوس والمعتقدات الشعبية جانبًا مهمًا فى حياة الشعوب، وتعكس صوراً عديدة لأنماط حياتهم الاجتماعية، يمكن من خلالها تفسير بعض الظواهر والمفاهيم من خلال العلاقات المتشابكة التى تحيط بهذه الجماعات أو الشعوب. وإذا كان لكل جماعة شعبية نسقها القيمى المتعدد الذى يحتوى بداخله أنساق التقاليد والعادات والثقافات والمأثورات الشعبية والأساطير، فهل « مفهوم الشرف » يوجد ضمن هذه الأنساق القيمية بوصفه مفهومًا إعلاميًا شعبيًا صامتًا، أم مفهومًا إعلاميًا يتخلل الوعى واللاوعى الشعبى الجمعى بكل سلطاته الشفاهية الصارمة فى تقييم أفراد الشعب؟. وهل من الممكن اعتبار الشرف مفهومًا إعلاميًا صارمًا، وأن المجتمع المصرى تسوده نزعة ذكورية تجعل الرجل فى جرائمه التى يرتكبها من أجل الشرف فى موقع أفضل، حرصًا على شرفه وشرف العائلة والمجتمع؟. والشرف لغة هو «العلو»، ويقال «ذا الشرف» أى «ذا العلاء» والرفعة، والرجل إذا علت منزلته فهو شريف، والاعتداء على الشرف يكون مفهوما فى اللغة باعتباره مساسا بأى صفة فى الفرد لها اعتبار فى رفع قدره وقيمته، ومن معانى الشرف أيضا، صون العرض واحترام الكلمة، وقد يتسبب المساس بالعرض والشرف فى الجماعات البدوية والريفية فى إراقة الدماء، كما أن كلمة الشرف إذا ما أعطيت كانت أقوى من العقد والكتابة ولا يباح التحلل منها، وعموما فإن الشرف فى اللغة يعبر عن مجموعة خصال تُكوِّن سمات أو هيئة الرجل الشريف. والشرف فى الفقه يشير إلى أنه مصلحة المواطن فى ألا يعاب عليه شيء ينافى الأخلاق، ويميل بعض الفقهاء إلى تعريف الشرف بأنه المكانة التى يحتلها الشخص فى الوسط الاجتماعى المحيط به، سواء كان مكانا أو مهنة، أو مجتمع أصدقاء، وتتحدد هذه المكانة وفداحة المساس بها وفقا لرأى أفراد المجتمع المخالط للمجنى عليه وما يسوده من قيم ومعايير. والشرف من الناحية الاجتماعية هو المكانة التى ينعم بها الفرد فى المجتمع، وتستمد من حصيلة ما تجمع لديه من الصفات الموروثة والمكتسبة، ومن علاقاته بغيره من أبناء المجتمع، ويعرف الشرف بأنه مجموعة الشروط التى يتوقف عليها المركز الأدبى للفرد، وبمعنى آخر هو مجموعة الصفات الأدبية, مثل الأمانة والإخلاص, التى تحدد مدى تقدير الفرد فى البيئة التى يعيش فيها. وقد سيطرت المعتقدات والمفاهيم على سلوك المجتمع العربى فى العصر الجاهلى فيما يتعلق بمفهوم الشرف الذى ارتبط بالأنثى/ البنت مما دفع الكثيرين إلى التخلص من البنت على أساس الشرف، لأنها تجلب العار لأسرتها وقبيلتها نظراً لما تفرضه نزاعات القبائل على الماء والكلأ, أو صراعاتها للسيطرة على طرق التجارة أو أخذاً للثأر من إغارة بعض القبائل على بعضها البعض مما يترتب عليه فى بعض الأحوال سبى النساء، الأمر الذى يلحق بالقبيلة الخزى والمهانة.وقد توارثت المجتمعات العربية إلى العصر الحديث الكثير من هذه العادات والتقاليد والمعتقدات. والمجتمع المصرى يفضل الولد على البنت من خلال النص الشعبى الذى يحتفى بميلاد الذكر/ الولد أكثر من البنت، كما جاء فى الأشعار الشعبية : لما قالوا دا ولد انشد ضهرى وانسد وجابولى البيض مقشر وعليه سمن البلد وعلى النقيض يعكس النص الشعبى كراهية المجتمع للبنت بقوله: بتيجى ليه يا صبية كان هوانا فى صبي إياك على الله يا صبية تروحى تِملِى تغرقي فهل انتقلت هذه العادات والتقاليد والمعتقدات بالفعل بوصفها رواسب ثقافية، أم انتقلت بين بعض القبائل العربية وألقت بظلالها فقط على النصوص الشعبية عندنا؟ وما مدى تأثير النص الرسمى على النصوص الشعبية؟ وهل تعد الأراجيز العربية نصوصا رسمية، أم أنها كانت بمثابة النص الشعبى فى تلك الحقب؟ هناك تماثلات بين النصوص التراثية ونصوص مأثورة جُمعت حديثا، ما زالت تتردد بين أبناء الجماعة الشعبية. ولنتأمل التشابه، بل التطابق بين هذين المثلين، أحدهما فصيح يقول :» دفن البنات من المكرمات»، والمثل الشعبى «موت البنات سترة» والمعنى الذى يشير إليه سطح النص هو تمنى موت البنات، وتحت هذا التفسير تتسق مقولات من قبيل أن الثقافة الشعبية تنظر للبنت وميلادها نظرة متدنية محتقرة إياها. وقد ارتبط مفهوم الشرف عادةً فى معظم قرى مصر بعذرية الفتاة كأساس للعفَّة، ويُبنى عليه احترام وعلو قدر أسرتها، إذ تظل الأسرة تحيط البنت بالرعاية والتوجيه حفاظاً على نفسها, إلى أن تأتى اللحظة (ليلة الدُخلة) التى تعد بمثابة اكتمال المهمة التى يعيش من أجلها الأب والأسرة جميعاً للاطمئنان على ثمرة سنوات والتباهى بحسن التربية. وأثبتت علوم التاريخ القديم، والأديان المقارنة، والأنثروبولوجيا وغيرها، أن «العذرية» كثيراً ما تكون فى معتقدات وطقوس جميع الشعوب تقريبا شرطا أساسيا قبل الإقدام على أفعال دينية وسحرية. وتكشف النصوص المرتبطة ب « ليلة الدخلة» و«الصباحية» مدى سيطرة المفاهيم التى تبنتها الجماعة الشعبية للوصول إلى المحطة التى تمثل جوهر الاحتفاء، ودعوة الأهل إلى الفخر والاعتزاز لما بدا من ثمرة تربيتهم، حيث يظل الأهل فى بيت العريس بعد دخوله بالعروس انتظار اً لإعلان نصاعة شرف ابنتهم، ولا ينصرف الأهل إلا إذا خرج العريس معلنا عفة ابنتهم، عندما يطل على الحاضرين وفى يده قطعة من القماش الأبيض فى حجم المنديل المحلاوى مخضبة بالدماء، وعندها تنطلق الزغاريد والأغاني، وتتخاطف الأيدى قطعة القماش (المحرمة) وتتناقلها فى دائرة رقص متواصل تتبعها أغنيات مثل هذه: يا حرة ورضيتى ليه أنا حرة وأمى حرة غصبن عنى وانا أعمل إيه فالأغنية تؤكد تمسك البنت بعفتها، ولولا شرعية ما أحله الله ورضى به الناس ما فرطت. هذا ما يؤكده النص على أنها مجبرة على هذا الفعل من واقع سنة الحياة و ليس غواية ولا شهوانية. عروستنا يا جبنة طرية يا وش السعد يا عسل الخلية عروستنا ما حد لمحها إلا العريس ميل وجدعها خد بوسة م الشفة جرحها خرّ الدم وبلْ الجلاَّبيه والنص يبرز براءة الفتاة، ويصف جمالها وقدومها بوش السعد، والعسل، ويركز على عفَّتها لعدم انكشافها على أحد إلا العريس، وتتطرق الجماعة الشعبية لعنصر العفَّة بتأدب، حين مال العريس فجرحها، لتأكيد ارتباط مفهوم الشرف بتلك اللحظة : يا حلوة يا بلحة يا مقمعة شرفتى أبوكى وأخوكي وولاد عمامك الاربعة وتتوالى النصوص المرتبطة بموضوع الشرف وقيمته التى لا تدانيها كنوز هذا العالم فى نظر الجماعة الشعبية، ومدى حسرة الحساد: هاتوا دهب وبحتروه ف الأرضي مهوش شوية فى بياض العرضي هاتوا دهب وبحتروه بالكيلة ما هوش شوية فى بياض الليلة شوفوا شرف البنت الفلاحة أحمر وزى التفاحة يا بحر روّق نغسل الشاشاتي احنا اتنصفنا والعدوة تهاتي يا بحر روّق نغسل المناديلي احنا اتنصفنا والعدوه تميلي يحيا أبوها يحيا عاوج الطربوش على ناحية يحيا أبوها وشنبه اللى محدش غلبه يا رب هاتوا فلحها على كمها عشان يقولوا شريفه زى أمها يا رب هاتوا فلحها أبيض نضيف عشان يقولوا فاطنة بنت الشريف قولو لابوها إن كان جعان يتعشى روّْح يا بابا الدم بل الفرشه قولو لابوها خدناها خدناها خدناها وضحكنا عليك يا بابا مدد رجليك روحو لابوها وانزلو له الخيمة بنت الأكابر شرفتنا الليلة يا مزوق يا طبق الورد يا مزوق قولوا لابوها يدبح العجلين فى بياض العرض يا عبد أبوها ف البلادى ونادى بنت الأجاود شرفت لسيادي أحمر يا بلحنا إحنا اللى نجحنا إن المعرفة الكاملة بالأفكار والعلاقات والتقاليد التى تضفى المعنى على الأغانى والأمثال والحكايات وغيرها، وتكسبها قيمتها أمر لابد منه، إذ لا يمكن أن يتضح لنا معنى هذه الأنواع دون فهم طبيعة المجتمع والعلاقات التى تكون نسيجه، والمفاهيم التى يعتنقها الأفراد وتصورهم لحياتهم، وحياة غيرهم. ومما سبق يتأكد لنا أن الجماعة الشعبية لا تزال تعتبر عذرية الأنثى/ البنت لها قدسيتها, إذ تمثل أهم النقاط المتعلقة بالشرف، التى قد يصبح من أجلها الموت شرفاً مستباحاً من أجل الحياة الكريمة. وهذه النصوص التى جمعت من الريف المصري، وبالتحديد من قرية البيوم مركز الزقازيق محافظة الشرقية تتميز بعذوبتها وبكارتها وخصوصيتها، التى يندر أن تتشابه فى مناطق أخري، لكن ما يميزها أيضاً أنها تنتمى إلى الأداء النسوي، فى محيط متنوع من المتلقين على المستويين الجنسى والعمري. وأدعو المهتمين بجمع وتوثيق التراث الشعبى بتوجيه نشاطهم وطاقتهم إلى المناطق النائية والمحرومة حضاريًا، لكونها منطقة بكر تتعرض لتجريف هائل من وسائل الإعلام المختلفة أطاحت بالعديد من قيمها وموروثها فى انتظار من يقبض على ما تبقى منه قبل الفناء.