تتشكل خصوصية كيان الإنسان من حصاد ما يرفضه وما يقبله، وكل ما يعتصم به فى ممارسات وجوده، وتتجلى دلالاتها فى أفكاره ومفاهيمه وتصوراته، وأحاسيسه وسلوكياته التى تعبر عن ذاتية كيانه، وهو ما يعنى الجسد الآخر الشفاف الموازى للجسد المادي، بوصفه الناطق، والفاعل، والمعبر عن الكيان. ترى إذا ما شكل كيانان لرجل وامرأة علاقة حب بينهما وتزوجا، ثم استجدت على أحدهما، أفعال غير متوقعة نفته خارج كيانه الذى كان مهر زواجهما، كيف سيكون المصير؟ عاشت (شنتال) مع زوج وأنجبت طفلاً، ثم اكتشفت تضاد كيانها مع كيان زوجها، لكن الطفل كبل اجتيازها عتبة هزيمة وجودها، فانزوت تستبد بها الكآبة، وتخنقها المشاعر الراكدة. مات طفلها فمنحها سطوة المواجهة، فتحررت بارتحالها عن عبء كيان زوج مضاد لكيانها. ارتبطت (شنتال) بالشاب (جان) الذى أحبته ويصغرها ببضعة أعوام، وعاشت معه دوائر مفردات الحاضر، وصيغه، وامتداداتها سنوات مفتوحة على علاقة عشق متمازج بينهما؛ لذا كانت تكره الأحلام لأنها تنفى الحاضر، وتفقده تميزه، وكانت شديدة التعلق بحاضرها، لذا كانت ترفض مقايضته بالماضى وكذلك بالمستقبل، وكان هاجسها أن يختفى عنها (جان) فجأة، وتنقطع أخباره، فتصبح معلقة فى الفراغ بقيود المغالقة المجهولة بينهما، حيث لا تقوى على الانتحار بوصفه خيانة ورفضًا للانتظار، وستظل حتى آخر أيامها تعيش رعبًا لا ينقطع، كما أن (جان) قد عشق خصوصية كيانها، واعتبرها الكائن الذى لا مثيل له؛ بل هى صلته العاطفية الوحيدة بالعالم، إنها هى وليس سواها، التى تحرره من لامبالاته. صحيح أن الحب علاقة تتحدى الانطواء، فهل صحيح أن علاقة (شنتال) و(جان) يمكن أن تصبح علاقة تمازج باطنى تواصلى بينهما، تتحدى الوجود الجسدى المستقل والمتفاصل لكل منهما، فتكشف آنيًا وعلى التوازي- منظور كل منهما للآخر- مشاعر، وسلوكًا، المستتر منهما، والمكتوم، والمحتمل؟ إن رحلة (شنتال) و(جان) لتمضية نهاية الأسبوع على الساحل، وما تلاها من أحداث، بددت سلطة المفاهيم، وكسرت المرجعيات، واستحالت كابوسًا داهم حياتهما معًا. بدأت الأحداث بعد وصولهما، حيث امتد إليهما سلطان الاستيهامات والتخيلات فى استباحة عالمهما، استنباتًا للشروخ والتصدعات؛ فعقب جولة (شنتال) المنفردة على الساحل، طاردها خاطر أقلقها، بأنه لا زمان دون تغيير، فتجلى استشعارها الفورى بأن الزمن يتبدى على وجهها، فتنصلت من كيانها الذى يسكنه (جان) وانزلقت إلى عالم الأهواء، فتلبسها هاجس أنها لم تعد تسترعى انتباه الرجال. عندما راح (جان) يبحث عنها، وعثر عليها تسير بلا هدى على الساحل، ناداها باسمها مرات، فلم تلتفت إليه، اقترب منها فإذ بها ليست هي، وأيضًا لا تشبه نفسها، إنها امرأة أخرى عجوز بشعة، ولكنها كانت (شنتال)، دخل إلى غرفتها فرآها، ذات وجه عجوز، ونظرة كريهة غريبة، ولما سألها عن سبب تعاستها وتغيرها الكامل، أجابته بأن الرجال لا يلتفتون إليها، فاحتضنها متمنيًا أن يعيد إلى الوجه المتحول كيانه المفقود. تصور (جان) أن استعادة انبثاق كيان (شنتال) الذى فقدته، يتأتى بتحقيق رغبتها وتعزيزها، لتنجو من ذلك الدوار، وتستحضر ما فقدته؛ لذا قرر أن يساكنها بالرسائل كعاشق مجهول لا تعرفه، بأن يضع فى صندوق بريدها رسائل عشقه. تكدست الرسائل التى أخفتها عن زوجها فى خزانتها. أتراها ترغب فى تأبيد حالة ذلك العشق مع مجهول؟ هل لا يمتلك (جان) كيانًا يصد بحرارة مشاعره واقتداره اجتياح غواية الخارج على (شنتال)، بدلاً من ذلك التواطؤ الاستبدالى بأن يحجب نفسه تمويهًا وخداعًا؟ ولماذا الخداع الذى يجهض تعاظم أى هدف ينتج منه؟ بدأت مرحلة البحث عن امتلاك الحقيقة، إذ اكتشف (جان) أن مغزى إخفاء (شنتال) الرسائل عنه، هو دليل استعدادها لاعتبار هذه المغامرة المستقبلية حبًا. صحيح أن ذلك لم يبطل حبه لها، لكن داهمته غيرة ليست مؤلمة بقدر ما هى مدمرة؛ إذ أحالت (شنتال) إلى طيف امرأة معشوقة، ولم تعد كائنًا موثوقًا به، وسكنته لامبالاة حيال كل شيء، وكأن العالم قد لحقه البطلان. بعث إليها برسالته الأخيرة، إنهاءً لوجود العاشق المجهول، معلنًا رحيله إلى لندن. اكتشفت (شنتال) أيضًا بالدليل القاطع أن العاشق المجهول هو (جان)، وبررت فعلته تلك بأنها محض حيلة لتركها. تبدى لها كيف غدا العالم مشوهًا، محملاً بكوارث مفاجئة، فقد حلت ضيفة عليها شقيقة زوجها السابق بمعية أولادها، الذين راحوا يعبثون، ويبعثرون رسائلها المخبأة، وملابسها الداخلية على أرض غرفتها، فأصابها الذهول أمام (جان)، وانفتحت خلايا غضبها افتقادًا لخصوصيتها، واندفع إعصارها الصاعق ليجتاح (جان) وينفيه من عالمها، وأبلغته بسفرها إلى لندن، ويبدو أنها قرأت رسالته الأخيرة التى أخبرها فيها برحيله إلى لندن، فراحت تعلمه أنها قد كشفته كعاشق مجهول، ثم على الفور غادرته. لم تكن تنوى الذهاب إلى لندن، لكن لأن الحب يفرض استحقاقاته؛ لذا خشيت أن يصدقها (جان) فيتبعها إلى هناك، عندئذ انطلقت إلى محطة القطارات، يخالجها توقع حضوره، لحظتها سينتهى بذلك سوء التفاهم الطريف، وبالفعل يتبعها (جان) سرًا، ولأنها مسكونة به راحت تلتفت خلفها بحثًا عنه. ترى هل يعنى ذلك أن (شنتال) ليست وجهًا يمكن أن يعثر على أجمل منه، وإنما كيان يعشقه، وأن (جان) ما زال لدى (شنتال) حنينًا، ومرجعيتها الماثلة دون بديل؟ أى عالم غامض يقف فيه الجسد كالحاجز أمام الكيان؟ ولماذا لا تقترن الحقيقة بواقعها؟ استمرت مغامرة تتبعه لها، متحملاً تناوب العذابات الجسدية، اعتداءً وزجرًا منعًا لدخوله المبنى الذى دلفت إليه (شنتال)، وهو عالم مبتذل فى ممارساته وتطلعاته، فغرقت (شنتال) فى التقزز والخجل، وهم ينادونها بغير اسمها، فاستبد بها إحساس عارم بالخطر، وتمنت أن يناديها أحد باسمها الحقيقي، حاولت الهرب، لكنهم أغلقوا الأبواب بالمسامير، فتلبسها الذعر، ودوت صرخاتها تحمل كل أوجاعها، وإذ فجأة ناداها (جان) باسمها مرات لتستيقظ إذ هما فى سريرهما معًا، وأخبرها بأنه ليس حقيقيًا كل ما حدث لهما إنه محض حلم، فاستيقظت وهى ترتعد مرددة جملته بأنه ليس حقيقيًا، ثم قالت له: (لن أحول بصرى عنك، سأنظر إليك دون انقطاع، أخاف أن أكف عن النظر إليك للحظة، فيندس فى عينى ثعبان أو رجل). هل هو حلم استشرافى لإيقاظ الوعى والتدبر؟ إن الكاتب التشيكى المعاصر ميلان كونديرا فى روايته (الهوية)، يؤكد أننا لا نمتلك من هذا العالم إلا ما يمنحنا إياه القلب وهو الحب، لأنه لا يخضع لمدارات التداول بيعًا أو شراءً، وتتجلى خصوصيته فى التمازج الباطنى التواصلي، بين كيانين، حيث تتبدى فعالية ذلك التمازج فى تحديه لقواعد الوجود الجسدى المستقل والمنفصل، إذ جعل (جان) و(شنتال) يحلمان معًا، حلمًا استشرافيًا واحدًا فى آن واحد، يجسد كابوسًا يعكس ما سوف يداهمهما معًا، إذ لم يمارسا وعى تدبر تأمين حبهما, والحفاظ عليه وحمايته، بالمكاشفة، والمصارحة، والبوح، وليس بالخداع، مهما كان هدف الخداع ساميًا. لمزيد من مقالات د. فوزى فهمى