مر مائة عام على بدء الحياة الحزبية فى مصر عندما أسس الزعيم مصطفى كامل الحزب الوطني... واليوم نخوض انتخابات يسودها الكثير من النقد والتساؤلات الموجهة إلى أحزاب مصر مما يستدعى تحليل الحياة الحزبية. اقترن ظهور حزب قوى بمرحلة الكفاح ضد الاستعمار وثورات الاستقلال. قام حزب الوفد الذى كان أشبه بحركة وطنية شاملة. استمر وانبثقت عنه أحزاب أخرى إلى أن قامت ثورة 52 وألغيت الأحزاب. عشنا فى إطار تنظيم واحد شمولى تغيرت أسماؤه وتنظيماته وقامت برلمانات غير حزبية. وكان ذلك حال أول مجلس شاركت فيه 71 . وهنا أستأذن القاريء أن أسرد تجربة شخصية لأقول من قبيل الاعتزاز وليس التفاخر أن أول اقتراح تقدمت به كان ضرورة قيام معارضة. استندت إلى حقيقة مستقرة هى أن كل رأى وكل قرار له ما له وعليه ما عليه ، وطرح الآراء المختلفة يصقل القرار ويمنع سلبياته. ذ كان اقتراحاً بسيطاً بدائياً هو أنه عندما يبحث الموضوع فى اللجان، إذا وجد عضو أو أكثر لا يوافقون على رأى الحكومة يصبح لهم بدورهم تقديم تقرير برأيهم عند مناقشة تقرير الأغلبية فى الجلسة العامة. أطلقت عليها «المعارضة المتحركة» التى ترتبط بموضوع البحث كل على حدة وليس بموقف دائم مع الحكومة أو ضدها. اعترض عليه كثيرون من أبواق الحكومة. قال أحدهم: «ما الذى يضمن لنا أن هذا الاقتراح لا يقود فى الأجيال القادمة إلى نشأة الأحزاب؟» وكتبت الأستاذة الكبيرة سهير القلماوى رداً قاطعاً تساءلت ومن نحن حتى نفرض على الأجيال القادمة أن يكون أو لا يكون لديها أحزاب، لها أن تختار ما تريد!! حذرنى البعض من غضب الرئيس السادات وأكد لى زميلى الطيب نائب المنيا أنه سوف يزورنى بإذن الله فى سجن النساء!! لكن الرئيس لم يغضب ولم أدخل سجن النساء وتبنى الفكرة جمال العطيفى ومحمود أبو وافية وأطلقا عليها «المنابر» ولم ينتظر السادات للأجيال القادمة واتخذّ قراره الرشيد بالسماح بإنشاء الأحزاب. قام حزب مصر الذى انضم إليه أغلب الأعضاء وذات يوم شكل الرئيس لجنة برئاسة نائبه حسنى مبارك دعيت إليها أعلن رئيس اللجنة أن الرئيس السادات قرر قيام حزب معارض وأننا مرشحون لعضوية هذا الحزب وكان المطلوب 20 نائبا لقيام الحزب. اختلط الأمر عليّ وسألت «إذا كان برنامج ذلك الحزب ضد الحكومة فكيف هى تدعو إليه؟ وإن كان هو نفسه فلماذا التكرار؟ كان من أعضاء اللجنة أبو بكر الباسل ومحمود أبو وافيه ومحب استينو والمهندس إبراهيم شكرى المرشح لرئاسة هذا الحزب الجديد باسم «حزب العمل». قام الحزب واستمر دون اغلب أعضاء تلك اللجنة وقامت أحزاب اخرى اكثرها فاعلية حزب التجمع برئاسة خالد محيى الدين ثم رفعت السعيد وحزب الوفد الجديد.ثم تحول حزب مصر إلى الحزب الوطنى وشد أعضاؤه الرحال إلى ذلك الحزب الجديد لأن رئيسه هو رئيس الدولة وهم يدمنون القرب من السلطة. بل فرح أمين أحد الأحزاب عندما اختير أمينا عاماً لذلك الحزب الجديد. يومها زارنا أخى وصديقى الذى احترمه دائما وأذكر وطنيته ومواقفه الراحل منصور حسن ودعانى للانضمام لذلك الحزب سألته ما هو برنامج الحزب أجاب أننا بصدد وضعه معاً. وعدته أن أنضم إليهم إذا اقتنعت بما يصلون إليه ولم أنضم إليه لليوم! كان السادات صادقاً ومصراً على إرساء الحياة الحزبية لكن المجتمع بعد سنوات الشمولية كان يفتقد ما يطلق عليه Party culture ثقافة الحزب. الحزب فى تقديرى مبادىء وسياسات تسعى لتنظيم ولا يمكن أن يكون أبداً تنظيما يبحث عن سياسات وهو حال أحزابنا حتى بعد الثورة عندما تصور كل فريق أنه صاحب الثورة وله أن يحتل مكاناً فى الساحة فأصبح لدينا 106 أحزاب خمسة فقط يمكن اعتبارها أحزاباً سياسية والأغلبية بمثابة نواد أو جمعيات تعاونية.ولا حرج فمرحلة ما بعد الثورات دائما مراحل استثنائية تسودها المغالاة والمبالغة إلى أن تتضح الأمور وتهدأ.وسوف تشاهد الانتخابات ظهور وصعود أحزاب وهبوط أخرى. الأحزاب تثرى الحياة السياسية عن طريق المعارضة الوطنية التى هى واجب وطنى قبل أن يكون حزبيا.شاركنا فى برلمانات لم تكن بها أحزاب وكان بها معارضة قوية نابعة عن وطنية صادقة ليست حزبية من أعضاء منهم محمود القاضى وخالد محيى الدين ومصطفى طلعت وأبو العز الحريرى وأحمد طه. وبرلمانات أخرى كان بها أحزاب إما مستأنسة أو غير وطنية كان للإخوان يوماً 80 عضوا ينتمون إلى ما أطلق عليه «المحظورة». ظاهرة غريبة ليس لها مثيل فى تاريخ العلوم السياسية ظهرت فى مصر دون غيرها. لم تكن حزبا قانونيا لكنها كانت حزبا يتم التعامل معه بأن يقال نواب المحظورة وتصريحات المحظورة وغير ذلك. كانوا يقومون بدراسة القضايا وتحديد موقفهم منها. كانوا أكثر التزاماً وجدية من غيرهم. أذكر أنهم كانوا يصفقون لى كثيراً إذا عارضت الحكومة ويكشرون لى عن أنيابهم إذا أيدتها. سألنى أحدهم مرة نحن نحترمك كثيراً لكن هل أنت معنا أم معهم؟ قلت إنى مع صالح الوطن أبحث عن الحقيقة تمتم هامساً «الحقيقة دائماً معنا». فى هذه اللحظة تأكد لى أن مجالهم ليس السياسة وعليهم الالتزام بالدعوى الدينية، لأنهم لا يؤمنون بالتعددية وإعمال العقل، أشير لهذه الواقعة لتوضيح مفهوم أنصار المحظورة للمعارضة فهى للهدم ليس للمشاركة. هم لا يصوتون أو يفكرون على أساس القضية المطروحة أهدافها وجدواها للوطن، لكن حسب توجيهات صارمة تصدر لهم من خارج المجلس أو خارج الوطن هذه خطورة «المعارضة المحظورة» واليوم على المواطنين حماية الوطن منها، سواء كانت محظورة لأسباب قانونية أو دستورية أو أمنية أو لغياب الإنتماء للوطن. حفظ الله مصر. لمزيد من مقالات د. ليلى تكلا