«الفنان هو ذاكرة عصره وترمومتر الوعى والوجدان لأمته».. بهذه المقولة بدأ الفنان والناقد والأديب الدكتور عز الدين نجيب رئيس تحرير سلسلة «ذاكرة الفن» الصادرة عن الهيئة العامة للكتاب، تقديمه للعدد الثالث من السلسلة للناقد الفنان محمد كمال، والذى قدم فيه دراسة متميزة عن الفنان الجرافيكى الراحل فتحى أحمد (1939- 2006).. وقد وصف عز الدين نجيب الفنان الكبير فتحى أحمد بأن «حواسه المرهفة كانت مضبوطة على نبضات قلب الوطن» فى أدق فترة مر بها فى تاريخه المعاصر، إيجاباً وسلباً، انتصارا وارتداداً، وكانت لوحاته معبرة عن «المتتالية التراجيدية» بين صعود المشروع الوطنى والنهضوى فى أوائل الستينيات ثم النكسة فالاستنزاف فحرب السادس من أكتوبر المجيدة وما بعدها من أحداث، وكان أسلوبه الفنى بعيداً عن الوصفية والرمزية أيضاً، فكان أسلوباً مبطناً بالمشاعر الذاتية الصادقة وموصولاً بالذاكرة الجمعية الممتدة للمصريين، باحثاً عن لغة جمالية جديدة تحمل تلك المعانى وتتكامل معها لنقل الشحنة التعبيرية إلى المتلقى عبر تقنية الحفر (الجرافيك) بأسلوب (الحفر بالطبعة الفنية الواحدة) حيث يحصل الفنان على هذه المستنسخات بطريقة يدوية قطعة بعد أخري، وهو أسلوب صعب لكن الفنان الراحل أتقنه وأجاده حتى صار من رواده، ولم يتنازل عنه رغم أنه لم يدر عليه عائداً مادياً يكافئ إبداعه أو على الأقل يكفى للاستمرار فى البحث والإنتاج. وفى تمهيده لهذه الدراسة القيمة يذكر المؤلف الناقد محمد كمال، أن فتحى أحمد هو أحد ألمع نجوم حركة الحفر المصرى المعاصر، ووصفه بأنه نموذج فذ للمبدع الذى جمع بين حبكة الصنعة وألق الإبداع ومتانة الجذور، ويشير إلى أنه انخرط فى معطيات المشروع القومى المصرى والعربى فى الخمسينيات والستينيات فى مراحله الفنية التى رتبها المؤلف من وجهة نظره النقدية لتبدأ بالواقعية الاجتماعية مروراً بالتعبيرية الرمزية والسورياليتين الروحية والصوفية ثم التجريدية الروحية، علاوة على تصاويره الزيتية التى لم تخرج كثيراً عن نطاق نهجه الجرافيكى. ينتقل المؤلف بعد ذلك لاستعراض تاريخ فن الحفر (الرسومات المطبوعة المستنسخة يدوياً وآلياً من أسطح مختلفة)، وهو من الفنون العتيقة التى ربما تعود للعصور البدائية الأولي، وكان الصينيون أول من مارس هذا الفن بشكل منهجى تطبيقى منذ بدايات النصف الثانى من القرن التاسع قبل الميلاد وتحديداً عام 868 ق.م، ثم عرفته أوروبا فى العصور الوسطي، بينما ظهر فى مصر إبان العهد الفاطمى عبر قوالب خشبية محفورة تُستخدم لطباعة المنسوجات بنقوش من زهور وورود وزخارف حتى أقبلت الحملة الفرنسية على مصر عام 1798 ومعها أول مطبعة تعرفها مصر، وفى عهد محمد على درس بعض المبعوثين فن الحفر والطباعة، وتطور الأمر مع افتتاح مدرسة الفنون الجميلة فى 12 مايو 1908، وفى 1934 أنشأ الفنان الإنجليزى برنارد رايس قسم الجرافيك بالمدرسة العليا للفنون الجميلة، وكان من رواد هذا الفن نحميا سعد والحسين فوزي، وكان من الجيل الثانى سعد كامل وكمال أمين وأحمد ماهر رائف وحسين الجبالى ومريم عبدالعليم، وتبعهم الجيل الثالث ومنهم فناننا فتحى أحمد الذى درس على أيدى سابقيه من الجيلين الأول والثاني، وهضم تعاليمهم المعرفية والفكرية والتقنية ليخرج بمشروعه الإبداعى شديد الخصوصية النابع من المشروع القومى المصرى العربى فى الخمسينيات والستينيات فكان مشروع تخرجه عن السد العالي، وقد تميز فتحى أحمد بمهارته اللافتة فى التعامل مع الحفر على الألواح الخشبية والجلدية بالحبر الطباعى الأسود دون رغبة فى الاتكاء على عنصر الإبهار اللونى إلى جانب مهاراته التصويرية اللافتة. ينتقل المؤلف بعد ذلك إلى استعراض تقنيات الحفر (الطباعة من سطح بارز ومن سطح غائر ومن سطح مستو) والتى انحاز الفنان فتحى أحمد إلى أولها (البارز) عبر مهاراته المتفردة فى التعامل مع ألواح الخشب واللينوليوم بالحذف النسبى من بشراتها بسكاكين الحفر متنوعة الثخانات، لتتحول فى التصميم المطبوع على الورق إلى وحدات بيضاء مختلفة الأحجام والإيقاعات البصرية. الكتاب : الفنان فتحى أحمد المؤلف : محمد كمال الناشر: الهيئة العامة للكتاب 2015