يقول الفيلسوف الألماني نيتشه إنه عادة لا توجد حقائق, لكن هناك تفسيرات مختلفة للوضع القائم. من هنا أبدأ, وأقول من الممكن أن ننظر إلي الزيارة المثيرة لفضيلة المفتي للقدس من أي زاوية تشاء.. فقد تراها, مثل البعض, تخليا عن المبادئ ودعوة للتطبيع الديني مع إسرائيل واستهانة بالمواقف الجماعية المعلنة وما يفرضه مقام المفتي من ضرورات وتحرزات. وعلي النقيض من ذلك, يمكنك أن تفسرها بأنها تجئ شأنها في ذلك شأن زيارات الحجاج المسيحيين أخيرا للأماكن المقدسة بالقدس في إطار نصرة القدس ودعم صمود شعبها الذي ما فتئ يرزح تحت وطأة احتلال غاشم منذ ما يزيد علي أربعة عقود ونصف عقد, إذ ربما تأخذ في الاعتبار أن أهل القدس أنفسهم رحبوا بالزيارة وأثنوا عليها واعتبروها نوعا من التراحم والتواصل مع أهليهم في الجوار والملة, بعد طول اغتراب, فزيارة المسجون لا تعني أبدا التطبيع مع السجان علي حد قولهم. لنضرب الأمثال, فلو أن لك أخا أو ابنا وقع في الأسر لدي الاحتلال الصهيوني, منذ أمد, ثم أتاك عرض من الصليب الأحمر أو غيره يفيد أنهم سيرتبون زيارة لك.. فهل بإمكانك تحت وطأة الشوق والحنين والحاجة إلي شد أزر الأسير أن ترفض وتتمنع بدعوي أن الزيارة ستتم, بالضرورة, بالتنسيق مع الجانب الاسرائيلي الذي مازال يجثم علي أراض عربية ويقتل شعبها. إذا كنت ستقبل, فانني أدعوك إلي اعتبار أن المسجد الاقصي هو أسير بدوره, ولتترفق إذن مع فضيلة المفتي, ولتأخذ في الاعتبار أن مثل تلك الزيارة هي تأكيد أمام العالم أن للمسلمين والمسيحيين حقوقا في المدينة المقدسة وأنه لا تنازل عنها, فلم يغفل المسلمون بعد رغم طوال الفراق عن أن المسجد الأقصي هو أولي القبلتين وثالث الحرمين, مثلما يحرص المسيحيون علي حقوقهم في كنيسة القيامة وغيرها. ثم لنتذكر أن المفتي, في النهاية, بشر يخطئ ويصيب في التقدير والتوقيت, وربما كان من الأفضل إخراج الزيارة بشكل أفضل أو ضمها مع جولة في الأراضي المحتلة- مثل قطاع غزة- والدعوة لمساندة ومؤازرة أهلها.. إلخ.. لربما كان من الأفضل تأجيلها في ظل حالة الغليان التي تعيشها مصر إلي حين استتباب الأوضاع أو الإعلان المسبق أن الزيارة لا تعني تطبيعا أو أن يتضمن برنامجها عقد مؤتمر صحفي عالمي لدعم صمود سكان القدس. سواء أخطأ المفتي أو أصاب, فحجم التطاول الذي لقيه بسبب الزيارة قد يعني, بالفعل, أننا نعيش في مجتمع مأزوم حقا.. مجتمع يظن أفراده أنهم من الملائكة الأطهار الذين لا يأيتهم الباطل من قريب أو بعيد. ولم لا, فكثيرون باتوا يمتطون جيادهم ويستلون سيوفهم لقتال أي مخالف للرأي والفعل والتوجه. نعم يبدو أن مجتمعنا لم يعد يعرف قيمة كباره ويوقرهم بل ويعمل علي تحقيرهم والنيل منهم وكأن غريزة التدمير الذاتي قد استولت علي مجريات العقول وشرايين الأفئدة.
بوضوح أن مثل هذا المجتمع المنتفض علي بعضه.. المتصيد الأخطاء.. المتطاول علي قاماته الفكرية والعلمية والدينية.. إلخ, هو مجتمع يصنع عثرته بنفسه, فإذا كانت ثورة يناير قد أطاحت بفرعون مصر, فلا ينبغي أن يصاحب ذلك إسقاط أهم ما لدي المصريين من خصائل جيدة في تراثهم, ألا وهو احترام كبارهم لاسيما عند وقوع خلاف في التقدير. ولنتذكر أن ما ساعد جنوب افريقيا علي عبور المرحلة الانتقالية من حكم البيض العنصري إلي نظام ديمقراطي مستقر, أن الناس هناك كان لهم كبار يحظون باحترامهم, فأمكن لهؤلاء, بما أوتوا من حكمة وبصيرة وكلمة مسموعة, أن يعبروا بسفينة الوطن باقتدار إلي بر الأمان.