يبدو أن قناة السويس لم تشق عمق الصحراء المصرية وحدها, و إنما شقت عمق التاريخ المصري أيضا; حيث يمتد قدم فكرة حفرها إلي أيام الفراعنة. كما أن الفكرة راودت القائد العربي الفاتح عمرو بن العاص عقب الفتح الاسلامي لمصر, لكن حال دونها دواعي تأمين البلاد... حتي أصبحت واقعا ملموسا عندما بدأت أعمال الحفر فيها في عهد محمد سعيد باشا والي مصر. ......................................................................... ويقول جورج حليم كيرلس- عضو المعهد الهندسي بلندن وعضو جمعية المؤرخين المعاصرين بنيويورك- و صاحب كتاب قناة السويس من القدم إلي اليوم إن فكرة حفر القناة لم تغب عن وعي أي ملك أو حاكم أو والي علي مصر نظرا لادراكهم جميعا بأن سر تميز هذا البلد يكمن في موقعه الجغرافي, و بالتالي كان تعزيز هذه القدرات هو الهدف الأسمي لكل من كان من شأنه الارتقاء بأحوال البلاد. و أوضح الكتاب الصادر عن دار المعارف1988 في ثلاث طبعات أنه في عهد الفراعنة, كان يحول دون تنفيذ هذه الفكرة الخوف من أن تغمر مياه البحر الأحمر الأراضي المصرية لأنه كان هناك اعتقاد سائد بأن مستوي سطح البحر الأحمر أكثر ارتفاعا من مستوي سطح البحر المتوسط. لكن هذا لم يمنع من أن المصريين لجأوا علي مر العصور السابقة لحفر قناة السويس إلي حفر قنوات بديلة عنها تصل بين البحرين الأبيض و الأحمر بطريق غير مباشر. وقد حملت هذه القناة أسماء العديد من ملوك الفراعنة مثل دارا الأول و بطليموس الثاني و تراجانحتي أصبح اسمها قناة أمير المؤمنين... حتي ردمت هذه القناة في عام767 ميلادية. و يوفر الكتاب البالغ عدد صفحاته حوالي255 صفحة عددا كبيرا من الخرائط التوضيحية و البيانات اللازمة بالأرقام والتواريخ و النسب. كما أن مؤلفه حرص علي شرح المصطلحات والأوصاف التقنية بلغة سهلة ومبسطة تراعي استيعاب القراء غير المتخصصين و في الوقت نفسه لا تخل بالمعني عند المتخصصين منهم. جدير بالذكر أن هذا الكتاب هو المؤلف السابع لجورج حليم كيرلس عن قناة السويس حيث إنه واحد ممن عملوا فيها حتي من قبل تأميمها, ليكن بذلك واحدا من أهم شهود العيان علي مرحلة مفصلية في تاريخ مصر الحديث. ومن بين الأسرار التي يسبر أغوارها الكتاب هو الطريقة التي استطاع بها فردناد ديليسبس الذي ليس هو بمهندس أو متخصص أو رجل مال و أعمال... أن يقنع والي مصر بأن يمنحه امتياز حق انشاء الشركة العالمية لقناة السويس البحرية.. وامتياز استغلالها لمدة99 عاما من تاريخ الافتتاح و منح الشركة جميع الأراضي اللازمة لها بدون مقابل من أجل اتمام أعمال الحفر, هذا بالاضافة إلي عدد آخر من الامتيازات الخرافية. وأوضح المؤلف أن كل ما كان يملكه ديليسبس هو صداقة قديمة ربطته بمحمد سعيد باشا وشيء من اللباقة و القدرة علي الاقناع. كما تعرض المؤلف إلي قصص العذاب و الهلاك التي تعرض لها المصريون الذين سيقوا للسخرة من أجل حفر القناة. و أوضح كيف مات منهم المئات تحت نير ارتفاع درجات الحرارة الحارقة و الأجواء القارسة و الأمراض والأوبئة الفتاكة إلي أن جاء اليوم الذي اعتلي فيه الخديوي اسماعيل عرش مصر وأصدر تعديلات علي فرمان الامتيازات الممنوحة للشركة كان أهمها الغاء السخرة المستعبدة من أجل حفر القناة. ثم شرح كيف تخلي توفيق الابن عن الحقوق المصرية في القناة لسد ديونه المتراكمة عند أصدقائه الانجليز. وقبل الدخول في الحديث عن مرحلة القناة بعد التأميم, استحضر الكاتب كل الآلام التي مرت بها البلاد و الأثمان الباهظة التي دفعتها من دماء و أرواح أبنائها وحريتها وكرامتها و أراضيها من أجل حفر هذه القناة.. ثم يستحوذ علي امتيازاتها المحتل لا أهل البلاد الذين هم أولي الناس بها. كل هذه الأوجاع التاريخية التي مرت بها مصر لاحت في خطاب الرئيس و الزعيم الراحل جمال عبد الناصر في يوليو56 قبل أن يعلن شركة قناة السويس شركة مساهمة مصرية: و اقتبس الكاتب من خطاب ناصر التاريخي: هذه الأموال أموالنا.. و هذه القناة ملك لمصر... لأنها شركة مساهمة مصرية. كما تعرض الكتاب أيضا إلي مراحل تاريخية في حياة القناة بعد مرحلة التأميم و منها مرحلة عدوان67.. عندما أغلقت القناة إثر غارات طائرات جيش الاحتلال الاسرائيلي عليها. حيث كانت المنطقة مسرحا للأحداث الدامية. و كبد اغلاق القناة مصر حوالي1500 مليون جنيه حتي أعيد فتتاحها في يونيو1975. ومن أهم ما يميز الكتاب هو أن الفصل الثامن به, وهو آخر فصوله, يعتبر قاموسا مصغرا لأهم المصطلحات الانجليزية التي وردت بالكتاب و شرحها باللغة العربية بطريقة سهلة و مبسطة. و كلها مصطلحات بحرية دقيقة كان لابد من شرحها للقاريء. ختاما, تجدر الاشارة إلي أن الكتاب بدأ بمقدمة بقلم المهندس محمد عزت عادل الرئيس الأسبق لهيئة قناة السويس.