كانت أعيننا مسلطة على الرواية الجزائرية المكتوبة بالفرنسية خلال مرحلة التحرر الوطنى. وكان الروائى الأول الذى عرفته هو محمد ديب الذى ترجم سامى الدروبى ثلاثيته ذائعة الصيت فى ذلك الوقت: الدار الكبيرة، الحريق، النول، ومازلت أذكر ما قيل لنا من أن رواية «الحريق» تنبأت بالثورة الجزائرية التى اندلعت بعد صدورها بثلاثة أشهر. وطوال الستينيات، وفى فترة المد القومى المصاحبة لمرحلة التحرر من الاستعمار، تحول الروائيون الجزائريون الذين كانوا يقاومون الاستعمار الفرنسى بالكتابة بلغته التى فرضها عليهم فرضا، فتعلموها وأتقنوها وكتبوا بها لا لكى يكونوا امتدادا للأدب الفرنسى والهوية الفرنسية، بل لتكون لغتهم الفرنسية لغة مقاومة لطمس الهوية العربية، ولغة تعرية لجرائم الاستعمار الفرنسى، واعتداءاته الوحشية على المواطنين الأبرياء. هكذا، أخذنا نسمع عن أسماء مولود فرعون ومولود معمرى ومالك حداد وغيرهم، بالإضافة إلى محمد ديب. وكانت عمليات ترجمة إبداعاتهم الفرنسية إلى العربية فعلا من أفعال مقاومة الاستعمار من ناحية، وتأكيدا للهوية القومية العربية لهؤلاء الكتاب من ناحية مقابلة. ولم يكن ما شعرت به عندما قرأت ثلاثية محمد ديب بترجمة الدروبى بعيدا عن هذا السياق، فقد كان سرد ديب وشخصياته تشحن وجدانى بالطاقة القومية وكراهية الاستعمار حتى من المنظور الوطنى، فقد كنا ندرك أن الثورة الجزائرية العظيمة امتداد لثورتنا المصرية، وأن فرنسا الاستعمارية فى ذلك الوقت انضمت إلى إسرائيل وإنجلترا فى العدوان الثلاثى على مصر سنة 1956، انتقاما من الثورة المصرية التى لم تتردد فى دعم الجزائر المقاومة للاستعمار بكل ما تستطيع، بما فى ذلك الكتابة بالفرنسية. وكان ذلك فى سياق أدبى وفنى مصرى أنتج فيلم «جميلة بو حريد» من إخراج يوسف شاهين سنة 1958، وسيناريو وحوار نجيب محفوظ وعبد الرحمن الشرقاوى وعلى الزرقانى. وقام بالتمثيل ماجدة وزهرة العلا وأحمد مظهر وصلاح ذو الفقار وغيرهم. ويبدو أن اشتراك عبد الرحمن الشرقاوى فى كتابة السيناريو، دفعه إلى كتابة مسرحيته الشعرية الأولى «مأساة جميلة» التى أخرجها مسرحيا حمدى غيث سنة 1959. وقد نجح الفيلم كما نجحت المسرحية جماهيريا، فقد كان كلا العملين استجابة معادية للاستعمار فى زمن التحرر الوطنى وتأجج المشاعر القومية. ولا أظن أن الكثير من أبناء جيلى شغلتهم ملاحظة ترجمة أعمال محمد ديب أو مالك حداد أو مولود فرعون أو غيرهم، فقد قرأوا الترجمات العربية التى أوصلت إليهم روح المقاومة بالرواية للحضور الاستعمارى لفرنسا فى ذلك الوقت، وأكدت داخلهم التمرد الوطنى على الاستعمار بوجه عام، سواء كان فرنسيا أو غير فرنسى. لكن السؤال المزعج الذى طرحه التقليديون من أساتذتنا هو عن هوية هذه الروايات المكتوبة بالفرنسية. هل هى عربية أم فرنسية؟ بعض أساتذتى ذهب إلى نفى صفة الرواية العربية عن الروايات الجزائرية المكتوبة بالفرنسية. وقد أزعجنى ذلك إلى حد كبير، فقد كان رأيى، ولا يزال، أن اللغة عنصر مهم من عناصر تحديد الهوية، ولكنها ليست كل العناصر. وكان الأهم من اللغة فى تقديرى، خصوصا فى أدب المقاومة للاستعمار، ليس اللغة، بل المضمون والشكل وبناء الشخصيات وما تنطقه، فضلا عن الحضور المباشر أو غير المباشر للراوى والمروى عليه، ولن أنسى تقنيات السرد ورؤية العالم السائدة فى القص ومصاحباتها الدلالية. وكان رأيى، ولا يزال، أن كتاب رواية المرحلة الاستعمارية كان عليهم أن يستخدموا لغة الاستعمار لمقاومته بلغته التى عمل على أن لا يمتلكوا لغة غيرها. ولم يحدث ذلك فى الجزائر وحدها، وإنما حدث فى أغلب دول إفريقيا، خصوصا السوداء. وتشبه الإنجليزية والفرنسية فى ذلك الإسبانية التى فرضها الغزو الإسبانى على الكثير من دول أمريكا اللاتينية. ولذلك لا تتطابق الرواية الإسبانية مع غيرها من روايات أمريكا اللاتينية التى تأسبنت لغاتها المحلية فى الفترة الاستعمارية. وهذا هو الفارق بين إسبانية جابرييل جارثيا ماركيز من كولومبيا وكاميليو خوسيه ثيلا من إسبانيا، والفارق كذلك بين فرنسية ان مارى لوكليزيو الفرنسى وآسيا جبار الجزائرية والطاهر بن جلون المغربى الذى حصل على جائزة جونكور الفرنسية بروايته «ليلة القدر». إن الهوية فى مثل هذه الأمثلة لا تتطابق مع اللغة ولا تقتصر عليها بالقطع. الطريف فى الأمر أن مؤرخى الأدب الفرنسى ونقاده لا يدخلون كتاب الجزائر الذين يكتبون بالفرنسية ضمن الأدب الفرنسى. وهذا طبيعى لأنهم شعروا أن أدب أمثال محمد ديب ومولود معمرى ومالك حداد وغيرهم أدب مقاوم للاستعمار الذى فرض لغته على أمثال هؤلاء فى محاولة استلاب هويتهم. ولكن هؤلاء الكتاب العظام استخدموا لغة الاستعمار المفروضة عليهم ليقاوموا الاستعمار. وقد نجح هؤلاء فى تأكيد هويتهم الإبداعية بالفصل بين اللغة وغائية الأعمال الأدبية، فاعتبروا الأولى أداة عمل، والثانية موضوعا للعمل. ولذلك قال محمد ديب: «قولوا إن أدبا قوميا يظهر الآن فى المغرب بعامة والجزائر بخاصة». وأهم من ذلك ما قاله أحد النقاد الفرنسيين فى تقديم إحدى روايات محمد ديب، مؤكدا «أن أعماله» روايات عربية مترجمة إلى اللغة الفرنسية لأنها كانت تحمل آلام هذا الشعب. وموجعة كلمات مالك حداد فى صراحتها التى تقول: «لقد شاء لى الاستعمار أن أحمل اللكنة فى لسانى... وأن أكون مقيد اللسان... لو كنت أعرف الغناء باللغة العربية لتغنيت بها». ولذلك قال جازما: «نحن نكتب بلغة فرنسية، لا بجنسية فرنسية». وليس معنى هذه الكلمات بعيدا عن ما قالته آسيا جبار: «إن مادة قصصى ذات محتوى عربى، وتأثرى بالحضارة العربية والتربية الإسلامية لا يُحدّ، فأنا إذن أقرب إلى التفكير بالعربية منها إلى التفكير بالفرنسية دون إنكار فضل هذه اللغة». ولا أحسبنى أختلف كثيرا عن ما قاله الأديب الجزائرى مراد بوربون من «أن اللغة الفرنسية ليست ملكا للفرنسيين، وليس سبيلها سبيل الملكية الخاصة، ذلك لأن أى لغة يمكن أن تكون ملكا لمن يسيطر عليها ويطوعها للإبداع الأدبى، أو يعبر بها عن حقيقة ذاته القومية أو الوطنية». وقد لا ينطبق هذا التكييف على كل المغاربة الذين يكتبون بالفرنسية. ولكن يظل الأمر الحاسم فى علاقة لغة الرواية بهويتها مشروطا بأمرين. أولهما: الشرط التاريخى القهرى الذى فرض على مبدعى الأمة المستعمرة التحدث والكتابة، ومن ثم الإبداع بلغة المستعمر. والثانى: أن يمتلك المبدع (المنطوى على العداء للاستعمار والرغبة فى التحرر منه) اللغة المفروضة عليه، ويعيد صياغتها بما يجعل منها ملكا له، خصوصا فى مدى تجسيدها لنزوعه الوطنى التحررى. ولا أدل على ذلك من أن ظاهرة الكتابة بلغة المستعمر قد تقلصت إلى حد كبير فى الأقطار التى تحررت منه، ومضت فى طريق التعريب إلى نهايته الطبيعية، فورث كتابة الرواية الجزائرية باللغة الفرنسية أجيال جديدة مبدعة تبدأ بجيل عبد الحميد بن هدوقة والطاهر وطار وأجيال واسينى الأعرج وأمين الزاوى وأحلام مستغانمى وفضيلة الفاروق وعز الدين ميهوب وغيرهم من الذين يكتبون مستقبل الرواية الجزائرية العربية الواعدة التى أصبحت أحد الفروع المهمة فى دوحة الرواية العربية المعاصرة. ولكن هل انتهت ظاهرة الازدواج اللغوى فى كتابة الرواية؟ الإجابة فى الأسبوع القادم. لمزيد من مقالات جابر عصفور