هنا فى هذه المساحة تُمسح كل المقالاتِ لأجلك أنت أيها الطفل الغريق،وهنا تتجمع كل العبارات لتكتب عنك شعرا وأدبا يفيض من قلوب تضيق،وهنا استحضار لقصيدة شوقى "سَلامٌ مِن صَبا بَرَدى أَرَقُّ/ وَدَمعٌ لا يُكَفكَفُ يا دِمَشقُ".. فيما يبدو أن الدمع والنواح والبكاء لن يرحل عنا حتى فى عصر فيسبوك وتويتر.. فقد كان شوقى ينعى هجوم فرنسا على دمشق منذ أكثر من 100 عام.. ونحن الآن ننعى هجوم العرب على العرب.. هجوم السوريين على سوريا.. ثم سنبكى كلنا والعالم قَبلنا هذا الطفل حتى ينعينا هو. لعنة الله على السياسة التى دمرت بلدا كانت من أهم طبائعها أن الزهر ينبت فى الحجز ويزهر، الآن أصبح الدم هو نبت الحجارة، وأصبحت الحجارة هى مطمع تنظيم داعش الإرهابى لتدميرها أو بيعها، من أجل ماذا كل هذا؟!.. من أجل كرسى الملك وسطوة الحكم والسلطان.. رغم أن كل هذا ستأكله الديدان. من أجل ماذا يهجم العربي على العربي ليسحقه، والسورى على السورى ليقتله؟! ألا يرون العدو الصهيونى المنتظر على الحدود؟! .. بالطبع يعلمون ولكن أمانى وبريق ذهب العرش أوضح من سموم الأفعى الصامتة. ذهب الطفل ليهرب من بين فكى قاطن كرسى الحكم من ناحية، وفكى الطامع فيه من ناحية اخرى.. ومن ورائهما تنظيم داعش الإرهابى الذى يقطع الرءوس.. لأن الحرب لا ترحم براءة الأطفال بالقنابل البرميلية والكيماوية وغيرها، فذهب الطفل مُغاضبا إلى شاطئ آخر وبلدة أخرى توقر الإنسان والحجر والشجر.. وللأسف ظهر على شواطئ تركيا غريقا موجها وجهه نحو الرمال المشبعة بمياة البحر، كأنه يرفض أن ينظر إلى وجه القاتل، لماذا؟! لأنه طفل، خصامه طفولى، غضبه طفولى.. حتى موته طفولى. طفل لا يدين بالشكر لأى فرد فى العالم، بل العالم يدين له بالكثير، وربما الشكر الوحيد الذى يدين به هو للأسماك والقروش التى لم تأكله.. ولأننا نجيد الشعر والقول فقال أحد الشعراء في نجاته من القروش: "سلمت يا بحر أن ألقيته جسدا ولم تنل منه أسماك وحيتان ولم تكن مجرما قطعته قطعا كما فعلنا بصمت فيه خذلان" حقا، الصمت فيه خذلان، صمتنا على ما يحدث فى سوريا واليمن وليبيا والعراق من أجل كرسى الحكم، ولكننى أُطمئن ذلك الطفل الغريق وأهله الغرقي وإخوانهم الذين سيلحقونهم غرقى أيضا، أننا نحفظ الحكمة التى قالها خبير فى السياسة: "إذا كان قد فاتك أن تلعن الذين ملأوا دماغك بالخرافات في السياسة، فهذه هي الفرصة!" أطمئنه بأننى الآن استغل موتك لألعن الساسة العرب، ولأطمئنه أيضا على صحتى بعد ذلك لأننى سوف أهدأ وأنسي، لا تقلق يا صغيرى مت هانئا، فقد نسينا من قبل آلاف غيرك قضوا فى ظروف مشابهة. لا ترى أننى متناقض، أو أننى أدعى البكاء فى أول المقال ثم أظهر على حقيقتى من استغلال غرقك فى اللعن على الحكام فى آخر المقال.. لا، هذه ليست حالة فردية ولكننا نحن العرب نعيش تناقضا يوميا منذ عدة عقود، شربنا التناقض حتى أصبح لا يفارقنا ويسير فينا مجرى الدم، نحن نكره الفساد ثم نُمارسه، نُدين القاتل ثم نتقرب إليه، نُلوح للضحية من بعيد بأننا نراها ونشاهدها لكننا لا ننصرها، ولا نقدم لها كسرة خبز.. نحن شعوب تعبر بالعجز الصامت، أفضل من الفعل القادر. وقبل الختام أيها الطفل الغريق اقتبست من كلمات شوقى فى قصيدة دمشق بتصريف كأنه يصفك تماما: "وَتَحتَ جِنابكِ البحار تَجري / وَوَجهُكِ ضاحِكُ القَسَماتِ طَلقُ" وفى الختام، يبقى الشعر على رأى أستاذنا فاروق جويدة.. فكتب عبدالرحمن العشماوي يرثيك: يابحرُ لاتُغرقِ الطفلَ الذي هربا / وارحمْ أخاه وأمّاً تشتكي وأبا رفقاً بهم أيُّها البحر العميقُ فقد / فَرُّوا من الشام لمّا أبصروا اللهبا خافوا على العرض والأرواح فالتحفوا/ ليلاً بهيماً أبى أنْ يُظْهِرَ الشُّهُبا أتوك يابحرُ والأهوالُ عاصفةٌ / فارفقْ بهم إنهم قد أصبحوا غُرَبا رأوك أرحمَ من أبناءِ جِلدَتهم / واستأمنوك فلا تقطعْ بهم سببا يابحرُ كنْ مركباً سهلاً فقد ركبوا / إليكَ من طُرُق الأهوالِ ما صَعُبا رأوكَ أرحمَ منا بعد أن وجدوا/ منا التخاذل والتّسويفَ والكذبا حتى هديرُكَ والأمواجُ صاخبةٌ / رأوه أرحم ممن جار واغتصبا يابحرُ رفقاً بهم حتى يكون لهم/ نصرٌ من الله يمحو الهمَّ والتعبا [email protected] لمزيد من مقالات أحمد سعيد طنطاوى