العشوائية فكرة ..والفكرة لا تموت طالما من يرعاها يملكون القرار .. لكن عندما يأتي القرار ليدمر تاريخا ويتعامل مع تراث باعتباره مجرد شوارع يجب «تبليطها» وأرصفة تحتاج أن ننجزها بأسرع وقت ممكن حتي لو كان الثمن تدمير التاريخ أو ردم تراث فالقصة لا يجب أن تمر هذا المرور الاحتفالي المعتاد للسادة المسئولين ولا أن تصبح خبرا لتلميع كبار الموظفين فخلف كل عنوان براق وكل نوايا طيبة تكمن كارثة عندما تتحكم العشوائية. منذ حوالي شهر ونصف انطلقت حملة أطلقت عليها محافظة القاهرة «حملة تطوير المناطق الشعبية التراثية» الهدف منها تنظيف منطقة الدرب الأحمر والجمالية والسيدة زينب وتبليط الشوارع والأرصفة .. حملة رفعت أهدافا نبيلة كاستجابة للانتقادات الكبيرة التي وجهها رئيس الوزراء للمسئولين عن المنطقة .. تحركت الحملة بهمة ونشاط لتطوير تلك المناطق ولكنها تغاضت عن الانتباه لقيمة تراثية وقررت أن تتعامل مع احد أهم مناطق التراث العالمي بنفس معايير وأسلوب أي حي عشوائي قريب. والنتيجة هى ما شهدته منطقة الدرب الأحمر مما يمكن ان نطلق عليه عمليات ردم سرية وناجزة لشوارع الدرب الأحمر وتدميرا لأرصفة وشوارع تمثل جزءا من تاريخ وتراث الحى ليحل محلها بلاطات إسمنتية وأرصفة ترتفع لنصف متر مخلفة وراءها بيوتا تكاد تبتلعها الأرض وبوابات اقترح رئيس الحى أن يتم «قصها لتتناسب مع ارتفاع الشوارع الجديد» ما يحدث فى الدرب الأحمر على يد عمال حى وسط وبدون أى وجود لخبراء أو أثريين كارثة تستحق أن نطالب بإيقافها فورا.. رفع القمامة من فوق الأسطح والفراغات العامة كان انجازا عظيما لحملة تطوير المناطق العشوائية التراثية ولكن سرعان ما ظهرت العشوائية المعتادة ,عندما بدأت عملية تبليط الشوارع ببلاط أسمنتى بعد عملية تغطية الأرض بكميات هائلة من الرمال, ليجد سكان الدرب الأحمر أبواب بيوتهم وقد هبطت تحت مستوى الشارع بما يزيد على نصف متر وهو ما يعنى عمليا ردم البيوت والأبنية الأثرية .. بينما كنا نسير بشارع سوق السلاح وفى الميدان الصغير الذى يطل على حمام (بشتك) وسبيل وزاوية (حسن أغا كوكليان) وهما من الآثار المسجلة كان المشهد صادما، عمال الحى يعملون بهمة ونشاط فى فرد تلال الرمل الأصفر ثم يغطونها ببلاطات أسمنتية حمراء ورمادية ,بينما أكوام الطوب الأسمنتى تم وضعها مستندة على شباك السبيل الذى يزيد عمره على 400 عام ليصبح مهددا بالسقوط فى أى لحظة فى حين يتولى عمال آخرون عمليات تركيب كتل الأرصفة الأسمنتية أمام احد البيوت التاريخية المجاورة للرصيف ليتم ردم ما لا يقل عن نصف متر من مدخل الباب وفى أثناء مرور رئيس الحى اعترض أصحاب بعض البيوت على ما يحدث من ردم للبيوت ومداخلها كان رد رئيس الحى بسيطا جدا انشروا الأبواب لتكون بمحاذاة الأرصفة هكذا ببساطة يجب أن نكيف تلك الأبواب التى يصل عمر بعضها لمائة عام لتتناسب مع ارتفاع الأرصفة الأسمنتية لتتلاءم مع ما يتم من عمليات ردم تحت دعوى التنظيف والعناية بالحى (!!)، بينما وحول المناطق المسجلة والتى رممتها مؤسسات وهيئات أجنبية تقديرا لقيمة تلك الآثار كان المشهد يمثل قمة الصدمة فحول بيت الرزاز ومسجد ام السلطان تم خلع جميع أحجار البازلت التاريخية من الأرصفة والفراغات المحيطة والتخلص منها تمهيدا لوضع البلاطات الملونة والأرصفة ذات الصبات الخراسانية !!. تشويه الآثار فى عام 2005 بدأ مشروع مؤسسة أغاخان ومركز البحوث الأمريكى لترميم مدرسة أم السلطان شعبان وبيت الرزاز وتم تسليم المشروعين عامى 2006 و2007، وقتها اعتبر المسئولون عن الترميم ومنهم الدكتور علاء الحبشى استشارى الترميم وأستاذ العمارة بجامعة المنوفية أن ما تم ليس فقط انجاز ترميم هذين الأثرين المهمين بل الأهم رصف المناطق المحيطة بتلك الآثار باستخدام البازلت التاريخى الذى سبق استخدامه عام 1910 فى أثناء عملية تبليط الشوارع فى عهد الخديو عباس حلمى ويحكى قائلا : «فلسفة ترميم الآثار فى الدرب الأحمر التى وضعتها الاغاخان ومركز البحوث الأمريكى اعتمدت على أن ترميم الأثر لا يعنى ترميم البناء الأثرى فقط دون مساحات الفراغ أو الأرصفة المحيطة وعندما بدأنا المشروع كانت الشوارع مدمرة تماما وبعد دراسة تاريخ المنطقة وجدنا أن الأثرين احدهما يرجع لبدايات العصر المملوكى والثانى لبداية القرن التاسع عشر وفكرنا وقتها كيف ندمج الأثرين معا.. لان بيت الرزاز وهو الأثر الأحدث كان مرتفعا عن الآخر (حوالى 90 سنتيمترا) وبالتالى كان لابد من تنسيق الفراغ بين الأثرين, وفى نفس الوقت لنظهر الفرق بين المكانين لان احدهما قديم والآخر احدث منه وكان لابد من مراعاة فى خطوات الترميم تصميم الفراغ العام المحيط وكذلك دراسة المبانى التى حولهما فالترميم أو التعامل مع الأثر لا يمكن أن يتم بمعزل عن البيئة المحيطة وهو ما فعلناه وقتها، فمثلا نفذنا كبارى صغيرة وسلالم من الجرانيت للدخول لكل اثر وكل مادة كانت تعبر عن عصر بحيث لا يبدو المكان وما حوله فى حالة تنافر بل إننا استطعنا باستخدام الخامات المناسبة أن ننتقل من عصر لعصر بسلاسة وبدون أى نشاز , وكان استخدام البازلت اختيارا جيد جدا أولا لتناسقه مع طبيعة المكان كخامة ولون , وثانيا لأنه خامة تستطيع أن تعيش طويلا والمدهش أننا بعد دراسة تاريخية لشوارع المنطقة اكتشفنا أن الخديو عباس حلمى عام 1910 كان قد تبنى مشروع تبليط جميع شوارع القاهرة بالبازلت ومنها شوارع الدرب الأحمر وبالفعل عندما أزلنا بضع طبقات من ارض الشارع المحيط بالأثرين وجدنا البازلت القديم واعدنا فعلا استخدامه فى تبليط أرصفة المنطقة المحيطة وأكملنا بتركيب بردورات الأرصفة من البازلت ايضا, وما فعلناه فى بيت الرزاز وأم السلطان هو النهج الذى سارت عليه جميع عمليات الترميم فى منطقة الدرب الأحمر فيما بعد وكان آخرها الجامع الأزرق الذى افتتحه رئيس الوزراء شخصيا. زيارة رئيس الوزراء للجامع الأزرق ثم زياراته المتكررة لمنطقة الدرب الأحمر والتى لام فيها المسئولين هناك على ما وجده من إهمال وعاقب وقتها رئيس حى الدرب الأحمر باستبعاده من رئاسة الحي، هى التى ألهبت حماس السادة المسئولين وعلى رأسهم محافظ القاهرة بإعلان المشروع الضخم لتطوير القاهرة التاريخية خاصة ايضا بعد ما شهدته المنطقة من تدمير لعدد من بيوتها المتميزة وعلى رأسها بيت المهندس وبيت مدكور الذى تبنت الأهرام حملة إنقاذه قبل أن يهدم تماما، لكن الزيارات التى أبهجت سكان الحى يرونها الآن نقمة بسبب عشوائية تصرف المسئولين. سعيد عمر احد أصحاب المنازل التراثية المقابلة لبيت الرزاز يتحدث قائلا : «بعد زيارة رئيس الوزراء فوجئنا بهم يهدمون الأرصفة القديمة التى كان قد تم ترميها مع بيت الرزاز ثم بنوا رصيفا جديدا يصل ارتفاعه إلى نصف متر وأصبحت اهبط للدكان الخاص بى بدرجتين عن مستوى الشارع الدكان تم ردمه فعليا وكذلك كل بيوت المنطقة والغريب أن بعض الأرصفة الجديدة بدأت تتفتت حتى قبل تركيبها بينما حضر المقاولون ليرفعوا الحجر البازلت الغالى وهو أمر غريب فنحن لم نشتك من الرصيف المنخفض القديم وكان فى منتهى الصلابة وبلاطات الأرض كان سهل تنظيفها. تشويه النسيج المعماري دكتور يحيى حسن الباحث الأثرى واحد أبناء الدرب الأحمر يرى أن ما يحدث هو قمة الاستسهال والعشوائية فى التعامل مع منطقة أثرية لها خصوصيتها الأثرية والتراثية فأسلوب الردم الذى تتبعه الأحياء لا يليق أبدا أن نتعامل به مع منطقة كالدرب الأحمر وإذا كانوا كما يقولون لنا إنهم يتعاملون مع الشوارع فقط ولم يقتربوا من الآثار فهذا اكبر دليل على تلك العشوائية فأى اثر فى العالم له حرم لابد من احترامه والتعامل معه بنفس القواعد الصارمة للتعامل مع الأثر وبالتالى لا يمكن بشكل من الأشكال وخاصة فى منطقة كالدرب الأحمر تتلاصق فيها الآثار وتتوزع بين البيوت أن أتجاهل هذا فالمنطقة كلها بنسيجها المعمارى ومساحات الفراغات هى كتلة واحدة لا يمكن أن نجزئها لان هذا تشويه واعتداء على نسقها الخاص لن تنجو منه حتى الآثار وهو ما حدث منذ يومين عندما تم خلع رصيف المنطقة المحيط ببيت الرزاز ومسجد ومدرسة أم السلطان الأثريين لكى يتم مساواتها بالشارع وتبليطها ببلاط إسمنتى وأرصفة قبيحة شوهت تماما مداخل الأثرين بخلاف ردمهما بعد رفع مستوى الشارع ..فلسفة وضع طبقات فوق بعضها مع كل عملية تجديد أو تنظيف هى فلسفة ردم تقوم على الاستسهال فى المقام الأول كما أن الموضوع بالكامل بين يدى مهندسى الحى غير المتخصصين ولم نر أحدا من الآثار أو حتى مسئولى القاهرة التاريخية بالمحافظة لمتابعة ما يحدث .. وهناك أمر آخر مهم جدا أن ما سيحدث كما أتوقع سيكون التعامل مع الشوارع الرئيسية فقط وتجاهل الحوارى والشوارع الفرعية كما يحدث عادة مما يحدث عزلة اجتماعية ففى مرات التجديد أو الدهانات السابقة للبيوت كان يتم دهان واجهة البيت المطلة على الشارع الرئيس وتجاهل بقية البيت لوقوعه فى شارع جانبى وأظن أن المسئولين لو كانت لديهم نية حقيقة ورؤية واضحة لإنقاذ الدرب الأحمر فكان يجب أولا أن يتعاملوا مع البنية التحتية خاصة الصرف الصحى والمياه الجوفية التى أصبحت مشكلة حقيقية وأيضا أن يضعوا ضوابط لعمليات البناء الأسمنتى العشوائى لعمارات تصل لعشرة ادوار وسط منطقة أثرية تتميز شوارعها بالضيق والازدحام وتخالف تماما قواعد البناء الذى عرفنا انه لا يجب أن يزيد على طابقين أو ثلاثة طبعا بخلاف القبح الذى تبنى به تلك العمارات وافتقادها لأى جمال معمارى تتميز به آثار وبيوت المنطقة كما أنها تمثل تهديدا شديدا لكل آثار المنطقة لو انهارت نظرا لرداءة بنائها الشديدة.