فى لقاءات القمة بين الرئيس عبد الفتاح السيسى والرئيس الروسى فلاديمير بوتين يمتد وقت النقاش والمشاورات بالزعيمين فى بحث قضايا العلاقات الثنائية وشئون الشرق الأوسط وتخرج المدة الزمنية للقمة عما هو مقرر فى جدول الزيارة، وكلما تعمقت العلاقات وتوثقت الروابط بين القاهرةوموسكو، اتسعت مساحات التفاهم والنقاش، وهو ما حدث فى قمة موسكو قبل يومين حيث تجاوز اجتماع القمة ضعف المدة الزمنية التى اتفق عليها الجانبان قبل زيارة الرئيس السيسي. بعد يومين.. من المحادثات الرفيعة المستوى فى موسكو، خرجت زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسى هذه المرة تحمل عنواناً مختلفاً عما سبق من لقاءات رئاسية وزيارات متبادلة، فقد جنت ثمار التطور الهائل فى العلاقات الثنائية بين القاهرةوموسكو على مدى عامين، وقدرة القيادة السياسية فى البلدين على إدارة دفة المصالح المشتركة بينهما إلى مستويات تخدم الشعبين، وتقدم لمنطقة الشرق الأوسط صورة ونمطاً لعلاقة ناضجة تخدم السلام والاعتدال والتوازن فى المواقف، وليست العلاقات التى تقوم على المناورة والابتزاز ورعاية قوى الإرهاب. لم تكن الكيمياء الخاصة بين الرئيس السيسى والرئيس فلاديمير بوتين فى القمة التى جمعتهما أمس الأول، الأربعاء، جديدة على اللقاءات الناجحة بينهما، ولكنها جاءت تلك المرة لتؤكد أن الزعيمين يخطوان بالعلاقات الثنائية إلى مستويات غير مسبوقة. فى المؤتمر الصحفى المشترك، كسر بوتين التقاليد المتعارف عليها فى مثل تلك المناسبات وأثنى على كلمة الرئيس السيسي، وقبلها وجه فى كلمته رسالة معبرة إلى كل من يراقب العلاقات الجديدة بإشارة مهمة إلى أن «مصر بلد واعد جدا». أرسى الرئيس بوتين فى المحادثات والمؤتمر الصحفى المشترك بعض المحددات التى تنطوى عليها السياسة الروسية إزاء مصر فى مرحلة من التحول التاريخى للمنطقة العربية، والتى يكتنفها كثير من الغموض، حيث تحدث عن مصر التى تلعب الدور الرئيسى فى مسائل جوهرية فى سياسات الشرق الأوسط، منها القضية السورية، والوضع فى ليبيا، ومسار التسوية بين إسرائيل والفلسطينيين. وفى جميع تلك القضايا كان الاتفاق على مكافحة الإرهاب يمثل ركنا محوريا فى الرؤية الثنائية للأوضاع المضطربة فى المنطقة، يستوى فيها إرهاب الجماعات الإرهابية وبقاء الاحتلال لأراض عربية. ورغم الأجندة المزدحمة للمباحثات الثنائية فإن كل المصادر الرسمية والمحللين فى موسكو تؤكد الرؤية الشاملة والصافية التى خرج بها الرئيسان فى اللقاء الرابع بينهما. قال الرئيس السيسى إن الشعب المصرى ينظر بأمل إلى آفاق تطوير مستوى العلاقات فى المجال الاقتصادى وكذلك فى مجال مكافحة الإرهاب خاصة فى تلك المنطقة التى تواجه مشاكل كبيرة تتعلق بالإرهاب والتطرف، ولم ينس أن يؤكد فى الكرملين الرسالة التى لا يصغى إليها البعض فى الدوائر الغربية، وهى أن الحكومة المصرية تكافح هذا الشر ليس فقط من خلال استخدام القوة، ولكن أيضا بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية. وقد كان رد الرئيس الروسى داعما وقوياً عندما قال «نمضى قدما، بفضل تطور العلاقات الروسية المصرية، فى إنماء اقتصادنا وتطوير المجال الاجتماعي، ويشعر مواطنونا بإيجابيات هذا التعاون».
تنظر روسيا.. بالفعل، إلى الفرص الواعدة التى تنتظر استثماراتها فى مصر وهى الفرص التى تعيد رحيق الستينيات فى العلاقات الثنائية التى أفرزت قلاعا صناعية عملاقة وسداً عالياً لم تستطع عوامل التعرية السياسية فى خمسين عاما أن تمحوها. فى التقارب الأخير بين القاهرةوموسكو، تطل صورة الماضى الجميل فى العلاقات الثنائية وإن كان الجانبان المصرى والروسى يدركان أن الزمن ليس هو الزمن، حيث يحمل الروس تقديرا عظيما للرئيس الراحل جمال عبد الناصر لدوره القومى ووقوفه إلى جانب حركات التحرر فى العالم الثالث ولكنهم يرون فى الرئيس عبد الفتاح السيسى شخصية قيادية وزعيماً حقيقياً فى مرحلة تاريخية شديدة الخطورة على مستقبل مصر والشرق الأوسط وهم يرون مصر اليوم مفتاح السلام وبوابة الأمن التى يجب أن يطرقها الجميع قبل البحث عن تسويات محتملة للأزمات التى تمر بها المنطقة العربية. ينظر فلاديمير بوتين إلى العلاقة مع مصر برؤية أشمل وأكثر نضجا بكثير من زعماء العالم الغربي، فهو يتحدث فى المؤتمر الصحفى عن الميزان التجارى بين البلدين وكيف أنه تحسن كثيرا ويرى أن مصر يمكن أن تصبح شريكا للاتحاد الاقتصادى الأوراسى من خلال تدشين منطقة للتجارة الحرة وقال «اتفقنا على بذل الجهود المشتركة من أجل إضعاف تأثير العوامل الخارجية وتحقيق النمو فى التبادل التجاري. ومن الخطوات الملموسة لتحفيز نمو الاقتصاد احتمال إنشاء منطقة تجارة حرة بين الاتحاد الأوراسى ومصر واستخدام العملات الوطنية وتعزيز التعاون الاستثماري». وحسب مصادر الرئاسة المصرية فإن مفاوضات التجارة الحرة ستأخذ بعضا من الوقت ومن المقرر أن يتم الإعلان عن برنامج التفاوض الخاص بهذه المنطقة خلال شهر أغسطس الجارى وهناك جدول زمنى آخر بالنسبة للتنفيذ والمضى قدما فى هذه الاتفاقية.
ويدرك الرئيس الروسى.. أن مساعدة مصر على إنجاز مشروعاتها والعودة إلى التصنيع ترتبط بتوفير مصادر كافية للطاقة، فكان أن أعلن فى المؤتمر الصحفى أن الخبراء الروس والمصريين يضعون اللمسات الأخيرة على المسائل العملية لبناء محطة للطاقة النووية فى مصر باستخدام التكنولوجيا الروسية معتبرا أن المشروع سيكون أحد أكبر المشاريع الثنائية ومشيرا إلى وجود شركات روسية عملاقة تعمل بنجاح فى مصر مثل «روسنفت» و«جازبروم». واقع الحال أيضا، أن قضية الطاقة وتلبية احتياجات السوق المصرية والمواطنين وقطاع الصناعة فى مصر كانت تحتل أولوية أولى فى زيارة موسكو وهو ما قدره الجانب الروسى كثيراً. وحتى تكون الأمور واضحة بشأن محطة الضبعة النووية، فقد زار رئيس الشركة الروسية المعنية بالمشروع مصر خلال شهر يونيو الماضى وتم تقديم عرض وجرى التباحث مع الجانب الروسى حول العديد من الجوانب المالية والفنية الخاصة بهذا العرض وتم الاتفاق على مواصلة التشاور والتنسيق خلال المرحلة المقبلة واختيار أفضل الخيارات بالنسبة لمصر لتفعيل هذا الحدث المهم. ويبدى الروس استعدادهم لتوسيع التعاون بشأن التعاون النووى للأغراض السلمية ليشمل تأهيل كوادر مصرية على أعلى مستوى لإدارة المفاعلات الجديدة.
على صعيد.. توسيع التعاون بين مصر وروسيا وشركاء الرؤى الواحدة تجاه مصير ومستقبل الشرق الأوسط، جاءت فكرة إنشاء صندوق استثمارى مشترك بين كل من مصر وروسيا والإمارات واعدة وينتظرها النجاح فى ظل المقومات المتوافرة فى الدول الثلاث، وهو ما سوف يترجم فى صورة جولات قادمة من المشاورات والتنسيق حتى يمكن الاتفاق على كيفية تمويل المشروعات المقترحة. وكان الرئيس قد أكد فى اجتماعه مع كبار المسئولين فى الحكومة الروسية أهمية تفعيل التعاون فى مجال التصنيع بإقامة مشروعات جديدة فى مناطق محددة تهدف إلى تلبية متطلبات السوق المحلية والتصدير إلى أسواق العديد من الدول فى الشرق الأوسط وإفريقيا، وفى ترجمة عملية سيقوم وفد روسى بزيارة إلى مصر من أجل التباحث بشأن أفضل البدائل المطروحة لإقامة تلك المنطقة بما يحقق المصلحة المشتركة للبلدين ويتيح المزيد من فرص العمل للشباب المصري. ومن الأفكار التى طرحت فى موسكو إمكانية الاستثمارات فى مشروع التنمية بمنطقة قناة السويس والمركز اللوجستى العالمى لتجارة وتداول وتخزين الغلال والحبوب والسلع الغذائية المقرر إنشاؤه فى دمياط، وتداول وتخزين المنتجات البترولية وجميعها تملك القاعدة الصناعية والخبرات الفنية الروسية باعاً عريضا فيها. فى قضايا الشرق الأوسط، أرست القمة عددا من المبادئ الأساسية التى لا يمكن المساومة بشأنها، فعلى مستوى الوضع فى سوريا ليس هناك مجال للمساومة على كيان الدولة وسقوط النظام الحاكم فى دمشق سيعنى سقوط سائر الأراضى السورية فى قبضة التنظيمات الدموية مثل داعش وأخواتها، وبالتالى تنظر القيادتان المصرية والروسية إلى مستقبل سوريا من واقع الخيارات المتاحة أمام الشعب السورى الذى لا يحتمل اليوم انهيار الحكومة المركزية فى تلك المرحلة المفصلية فى غياب البدائل ومن دون حساب وجود تيار داخل وخارج سوريا يؤيد السلطة الحالية. فالخيار الوحيد الآن هو خريطة الطريق التى حددت المسار السياسى للحل وفقا لجنيف 1. وعن القضية الفلسطينية، جاءت مشاورات موسكو كاشفة للجميع أن مصر لا يمكن الافتراء على دورها التاريخى وأن قضية الشعب الفلسطينى مازالت تحتل أولوية مطلقة فى سياسة مصر الخارجية وتعد بندا رئيسيا فى كل مباحثات الرئيس السيسى مع مختلف قادة الدول، واتفق الطرفان المصرى والروسى على استمرار التنسيق والتشاور المشترك من أجل إزالة الجمود الحالى فى عملية السلام ومحاولة التوصل إلى تسوية مبدئية تحفظ حقوق الشعب الفلسطينى فى إقامة دولته المستقلة.
ما أعلنه السيسى.. عن وجود «طفرة فى العلاقات الاستراتيجية بين روسيا ومصر» هو توصيف فى محله تماما، وقد كانت أركان الكرملين ومقر ضيافة الرئيس ووسائل الإعلام الروسية شهودا على تلك الطفرة التى تدشن فى كل لقاء قمة بين الزعيمين ركائز جديدة للتلاقى فى المواقف والتى تزداد رسوخا، وتؤكد أن المواقف المشتركة تقوى وتتعمق على وقع ما يجرى من أحداث فى سائر الشرق الأوسط وتبرهن أن الوقوف ضد الإرهاب وجماعات الدمار ليس خيارا ولكنه قرار لا بديل عنه لبلدين يعرفان حجم الخطر جيدا ويدعوان الآخرين أن ينضموا إليهما لمجابهة قوى الإرهاب على نفس القدر من النضج. فى المحصلة، ما حدث فى القمة ليس كل شيء، وما أعلن فيها من مواقف واتفاقات بشأن التعاون ليس نهاية المطاف، فهناك ما هو قادم على الصعيدين الثنائى والإقليمى يصب فى مصلحة السلام والاستقرار ومكافحة الإرهاب لمصلحة شعوب المنطقة ومستقبلها فى التنمية والتقدم. أن البلدين مصر وروسيا والمنطقة على أبواب طفرة ضخمة على صعيد العلاقات الثنائية واختراقات كبيرة على الصعيد الإقليمي. لمزيد من مقالات محمد عبد الهادى علام