في يونيو 1995 كتبت مقالا بهذا العنوان: إلي متي نسكت؟ لكن هذا المقال منع للأسف من النشر نظرا لأنه كان ضد التيار الغالب في الصحافة المصرية آنذاك. وكنت قد كتبت هذا المقال وأنا في حالة من الانفعال النفسي بسبب الحكم الذي صدر قبلها بأيام بالتفريق بين المفكر الراحل نصر حامد أبو زيد وزوجته, علي اعتبار أنه كافر وأن الشريعة تحرم زواج المؤمنة من الكافر. وكان هدفي من كتابة المقال أن أدق ناقوس الخطر وأنبه إلي استفحال تأثير التيارات المتطرفة وتفشي ظاهرة الاتجار بالدين ومناخ الدجل والشعوذة الدينية الذي ازداد مع مرور السنين, حتي صار مسيطرا علي المجتمع وصرنا نعاني منه الآن بعد الثورة في أحرج الأوقات, حيث أصبح الرأي العام له أولوية في تحديد مصير البلاد علي عكس ما عشناه تحت ظل الأنظمة الديكتاتورية السابقة التي كان فيه الحاكم والطبقة المحيطة به هي التي تحدد وحدها الصالح العام والمسار السياسي الذي تتخذه البلاد. وكانت سياسة الدولة في تلك الحقبة وحتي تنحي مبارك عن الحكم في 11 فبراير 2011 تقوم علي ازدواجية شيطانية تحقق مصالحها الضيقة والمؤقتة علي حساب مصالح المجتمع علي المدي الطويل. فقد كان نظام الحكم يضرب بيد من حديد كل من يمارس نشاطا سياسيا إسلاميا, ودخل الآلاف السجون وتعرضوا للتعذيب ولمعاملة بعيدة كل البعد عن أبسط قواعد حقوق الإنسان, لكنه في ذات الوقت ترك المجال لهذا التيار أن يمارس تأثيره الكامل علي الشعب المصري من خلال الدعوة الدينية غير السياسية, بل كانت سياسة دولة مبارك هي المزايدة عليه في المجال الديني, مما جعل هناك تصاعدا مروعا للعزف علي وتر الدين وامتلأت قنوات التليفزيون بالدعاة والشيوخ ومنع كل من يحمل فكرا مغايرا من التعبير عن رأيه في القضايا الأساسية التي فرضها التيار الإسلامي علي الساحة, وأصبح الشغل الشاغل الذي يلهي الناس عن معاناتهم اليومية والظلم الواقع عليهم هو أمور مثل عذاب القبر وحديث الذبابة وإرضاع الكبير والحجاب والنقاب وغير ذلك. وكان شعوري في ذلك الوقت أنه سيأتي اليوم الذي نندم فيه علي هذه السياسة المكيافيلية التي توظف الدين لهدف أساسي هو احتفاظ الحاكم بالحكم وتوريثه لابنه, حيث صارت المعادلة المطروحة في الداخل والتي اقتنع بها العالم أجمع هي: إما مبارك أو التيارات الدينية المتطرفة. وسوف اقتطع من المقال الممنوع والذي وجدته بأحد أدراج مكتبي منذ أيام الجزء الأخير منه والذي حاولت أن استخلص فيه نتائج مقدمات المقال وأن أنبه إلي خطورة السياسة التي كان ينتهجها مبارك ومن حوله طوال فترة حكمهم. واسمحوا لي أن أنقل من المقال حرفيا: وللأسف فإن الكثيرين في مصر ينظرون إلي هذه التطورات باستخفاف واستهتار ولا يكفون من سنوات عن التهوين من الأمر, متصورين أنهم بعيدون كل البعد عن خطر سيطرة هذا الفكر المتعصب. لكن هذه النظرة تدل علي قصر نظر وعدم إدراك للواقع لأن العاصفة سوف تعصف بالجميع إن عصفت لا قدر الله علي مصرنا الغالية حماها الله عز وجل من كل سوء. ولعل من أهم أسباب ما وصلنا إليه اليوم هو السكوت عن الباطل والقبول بالتنازلات المتوالية للتطرف الديني بدعوي احتوائه عن هذا الطريق. وأتوجه بسؤال إلي كل المثقفين في مصر وإلي صاحب كل رأي حر وفكر مستنير وإلي كل مؤمن بأن الدين الإسلامي هو دين السماحة وإعمال العقل والإقبال علي الحياة: إلي متي نسكت؟ أنسكت حتي نرتدي الطرح ونبكي ساعتها علي كل الفرص التي فاتتنا للتصدي لهذا الفكر الوافد علينا من الخارج بقوة أموال النفط؟ وكانت خاتمة المقال تلخص الرسالة التي أحببت أن أوجهها منذ 17 عاما حيث كتبت: فلنقل رأينا بشجاعة الآن قبل فوات الأوان ومصيرنا في النهاية بين يدي الله تعالي. وكان منع هذا المقال من النشر بالنسبة لي مؤشرا واضحا علي أن سياسة دولة مبارك هي السير في اتجاه تفريغ الساحة من أي فكر يتصدي للغيبيات والدروشة وتشجيع التيارات الإسلامية المتطرفة وبائعي الأحلام طالما أنها لا تشكل خطرا مباشرا علي السلطة حتي تصبح المعادلة: مبارك أو الفوضي, عملا بمقولة ملك فرنسا لويس الخامس عشر: أنا ومن بعدي الطوفان. وليس هدفي من نشر جزء من المقال الممنوع البكاء علي اللبن المسكوب والندم علي الماضي وإنما ما أستهدفه هو إلقاء الضوء علي الحاضر والخروج من النفق المظلم الذي وضعنا فيه حكم مبارك ووقف تنفيذ السيناريو الذي وضعوه لنا وهو أن تدخل مصر في حالة من الصراعات والفتن واستشراء التطرف والتفرقة بين أبناء الشعب علي أساس الدين والجنس والعرق. لنفتح أبوب الثقافة والمعرفة والفن الرفيع ونسعي لإعادة ما نسميه الزمن الجميل ولا نستمع إلي الذين يريدون تكفير وتحريم كل شيء جميل ويريدون لمصر أن تنغلق ولا تسير في ركب التقدم والرقي الذي تقدمت فيه دول كانت مصر تسبقها كثيرا منذ عقود قليلة. فمصر كانت دائما دولة وسطية وديننا دين الوسطية والاعتدال. أما أفكار التطرف والغلو التي تتعالي نبرتها في هذه الأيام فهي تدبير شيطاني قام به النظام السابق لإلهاء الناس بالخرافات والخزعبلات عن المظالم الواقعة عليهم. والثورة الحقيقية الآن بعد خلع مبارك هي الثورة علي تلك الأفكار التي تريد لمصر أن تتقهقر بدلا من أن تكون في طليعة التقدم كما كانت دائما في تاريخها الحديث. المزيد من مقالات شريف الشوباشي