منذ أربعين عاما بالضبط نشر المفكر الاستراتيجى والجغرافى الكبير الراحل جمال حمدان كتابه الصغير قناة السويس... نبض مصر، عقب الافتتاح الثانى للقناة بعد حرب أكتوبر المجيدة والتى كانت قد أغلقت قبلها لثمانى سنوات منذ هزيمة يونيو 1967 والاحتلال الإسرائيلى لسيناء. وليس هنا هو مجال عرض هذا الكتاب المهم فى مناسبة الافتتاح الثالث للقناة، ولكن فقط نلفت النظر إلى المعنى الظاهر فى عنوانه من مفكر بحجم جمال حمدان يدرك جيدا مضمون المصطلحات، فمصر التى هى عبقرية المكان والموضع والموقع يأتى نبضها من قلبها الذى هو قناة السويس، التى بهذا المعنى هى مفتاح الحياة لها. والقلب هنا ليس فقط بالمعنى الاقتصادى الكبير الذى مثلته القناة لمصر والذى ستتضاعف أهميته بعد افتتاح وعمل القناة الجديدة والتى ستصل بدخلها المباشر وحده إلى مرتين ونصف المرة من دخلها اليوم فى خلال سبع سنوات، بالإضافة إلى عوائد غير مباشرة من المشروعات الاستثمارية فى إقليم القناة والتى ستصل إلى عشرات المليارات من الدولارات بعد اكتمالها. القلب هنا أيضا بالمعنى الاستراتيجى والأمنى القومى لمصر الدولة والمجتمع، فطوال مئات بل آلاف السنين ظلت التهديدات والاعتداءات العسكرية الكبرى التى هددت مصر تأتى من بوابتها الشرقيةسيناء، ومن هنا فإن شق قناة السويس الجديدة وتنمية الإقليم المحيط بالقناة كلها سوف يضاعف من قدرة مصر على حماية تلك البوابة استراتيجيا بالإضافة إلى ما تملكه من وسائل عسكرية لحمايتها. لقد تحدث كثيرون منذ تحرير سيناء بعد حرب أكتوبر 1973 عن ضرورة تعمير سيناء وتكثيف الوجود البشرى والنشاط الاقتصادى بها لكى تتحول إلى منطقة عزل وعوائق أمام أى محاولة لدخول مصر من بوابتها الشرقية، وهاهو مشروع قناة السويس الجديدة، المجرى والاستثمار الإقليمي، يأتى لكى يبدأ تطبيق هذا الاقتراح الضرورى على ضفاف القناة وليمتد بعد هذا شرقا لكى يشمل فى خلال أقل من عقدين سيناء كلها. وبالإضافة لهذا الدور الاستراتيجى للقناة فى امتدادها الجديد فى حماية الأمن القومى المصرى تجاه أى عدوان خارجى من الشرق، فهى يمكن أن تلعب دورا رئيسيا فى حمايتها من أخطار الداخل المدعومة من الخارج والتى يمثلها مثلث الإرهاب الموجود فى منطقة شمال شرق سيناء. فلاشك أن أسبابا عديدة تكمن وراء هذا الإرهاب الذى بدأ فى التصاعد منذ عام 2003، ولكن تظل قضية التنمية الاقتصادية وفتح آفاق جديدة أمام أبناء سيناء عموما وشبابها خصوصا لكسب عيش كريم ومستقر وقانونى واحدة من الأسباب المهمة لتصاعد تلك الظاهرة. ومن هنا فإن مشروع قناة السويس الجديدة بإقليمها الأوسع يمكن له أن يخلق فرص عمل واستثمار جادة لأبناء سيناء وشبابها تعيد دمجهم فى الحياة الكريمة، وتعوض الكثيرين منهم عن سبل أخرى غير قانونية لكسب العيش كانت الأنفاق والحدود المستباحة توفرها لهم. ولن يتحقق هذا الأمر بمجرد الإشارة إليه، بل هو يتطلب قرارا واضحا من الدولة وتخطيطا منظما من أجهزتها المختصة لإشراك أبناء سيناء وشبابها فى الانخراط بمشروعات الاستثمار بإقليم القناة واستفادتهم من عوائدها. وربما لم يكن جمال حمدان عندما تحدث عن قناة السويس باعتبارها نبض مصر الذى يأتى من قلبها يتوقع ثورات المصريين الهائلة التى تعاقبت خلال عامين ونصف العام لكى تغير من وجه المجتمع والدولة وتعطى مشهدا آخر لشعبها غير هذا الذى ظهر طوال تاريخها الطويل. فالمصريون لم ينجحوا فقط فى خلع رئيسين متعاقبين ووضعهما وراء القضبان، بل إنهم تجاوزوا دورهم المرسوم عبر هذا التاريخ الطويل باعتبارهم مجرد متلقين ومؤيدين أو صامتين للحاكم أو تجاهه. المصريون، وبعد عام واحد من خلع رئيسهم الثانى انطلقوا فى سابقة إيجابية هى الأولى من نوعها منذ تأسيس دولتهم الحديثة فى بداية القرن الثامن عشر لكى يجمعوا من أموال مدخريهم الصغار والمتوسطين، وليس رجال أعمالهم ولا دولتهم، أكبر حصيلة مالية عرفها هذان القرنان من تاريخهم لحفر قناة السويس الجديدة. قرار المصريين بالمشاركة المالية ومن ورائها كل هذا الحماس الوطنى لحفر القناة الجديدة كان تغيرا جوهريا فى الشخصية المصرية التى درسها جمال حمدان بعمق. هذه التغيرات الجوهرية فى الشخصية المصرية التى عكستها ثورات المصريين ووقوفهم غير المسبوق وراء مشروع قناتهم الجديدة تستحق اهتماما سياسيا حقيقيا من الدولة بهدف تنميتها والاستفادة منها فى مسيرة بناء الوطن. المصريون لم يعودوا عازفين وخائفين من العمل السياسي، فالسياسة اليوم بمعناها الواسع وكل معانيها الأضيق صارت جزءا عضويا من حياتهم اليومية. المصريون أيضا لم يعودوا متفرجين أو خائفين أمام ما تقوم به الدولة، بل أصبحوا شركاء وأحيانا الصانعين الحقيقيين لهذه الدولة. ويبدو مؤكدا اليوم من شواهد ومؤشرات كثيرة أن أى تفكير أو محاولة لإعادة المصريين إلى سابق عهدهم قبل 25 يناير 2011 و30 يونيو 2013 هو حرث فى البحر ومكتوب عليه الفشل التام، فلابد من دفعهم إلى مزيد من المشاركة فى العمل العام والسياسى بصورة خاصة من أجل تنظيم طاقاتهم والاستفادة منها فى بناء وطن العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية. ولن تتحقق هذه المشاركة ولا هذا التنظيم إلا بتصور واضح وسياسات محددة من جانب الدولة التى أعطاها المصريون ورئيسها ثقتهم بعد 30 يونيو 2013. من هنا، فإن العودة بعد افتتاح قناة السويس وانطلاق العمل فى بناء مشروعها الإقليمى الاقتصادى إلى الداخل المصرى من أجل اتخاذ قرارات كبرى تتعلق بتحفيز المصريين على المشاركة فى العمل العام والسياسي، سيكون بمثابة القناة الجديدة الأخرى التى سيشارك كل المصريين فى حفرها. هذه القناة الجديدة تستلزم الشروع فورا فى إجراء الانتخابات البرلمانية، وتستوجب فورا إعادة فتح ملفات الفساد الكبرى واتخاذ الإجراءات القانونية الحاسمة بشأنها، وتتطلب فورا الحسم التام فى محاسبة كل خروج على القانون واعتداء من أى شخص أو جماعة أو سلطة على حقوق الناس وكراماتهم. القناة الجديدة فى داخل مصر تقتضى اهتماما خاصا من الدولة والرئيس والنائب العام بشباب مصر لإعادة دمجه واستنفار حماسته للمشاركة فى بناء بلده، وهو ما يتطلب قرارات عاجلة بالعفو والإفراج عن المحبوسين منهم احتياطيا أو بأحكام قضائية ممن لم تتلوث أيديهم بدماء أو بأفعال إرهابية، وهو ما سبق للرئيس والنائب العام الشهيد هشام بركات القيام به لأكثر من 700 شاب تم الإفراج عنهم خلال العام الحالى (2015) وحده. لمزيد من مقالات ضياء رشوان