شمس أغسطس القاسية تطارد أنفاس الناس فى مصر، تسحب من الأجساد كل قطرة ماء، وتطوق القدرة على الفعل .. أى فعل!، فى هذا الواقع يرابط على رمال قناة السويس مصريون، واجهوا على مدار عام طقساً توحشت طباعه، يروضون برد الشتاء بدفء القلوب المخلصة للوطن، ويصقلون بلظى الشمس اليقين فى وطن قادم لا محالة. إنه الأمل حين يسيل عرقاً يمهد السبيل لقطر البحر ليعبر قناة السويس، ولتعبر معه مصر أزمنة الإنكسار والاستبداد والفساد، من أجل هذا يسيل العرق. وتدخل شمس أغسطس سباق الوصول ليوم افتتاح قناة السويس الجديدة، تصر على أن تكون لاعباً على مسرح الأحداث، دورها التمهيد لمشهد افتتاح يجسد القدرة المصرية حين تقرر التحقُقْ أياً ما كانت الظروف، وعلى مسرح الواقع لاعبون كثُر يحاولون استثمار المشهد القادم، وبلا شك يظل استثمار المشهد المصرى الراهن مسئولية وطنية يشترك فيها الجميع، بداية من الرئيس وحتى أبسط مواطن مصري، ذلك الذى يركب (حماره) متجهاً إلى (غيطه)، ولا يزال يسمع صوت الإذاعة المصرية تؤكد (مصر تحتفل)، يرفع نظره إلى السماء متمتماً (جيبها جمايل من عندك يا كريم وتمها على خير). ويمسح بطرف كمه قطرات عرق الصباح بينما يهز رجليه لتُسرع (حمارته) الوصول إلى غيطه (قناته القديمة الجديدة) . يحفز حضور شمس أغسطس المطرب الذى كان شعبياً، قبل أن يتم استدماجه فى دوائر النجومية، ويقرر أن يصرح قائلاً (المفروض الحكومة تبعت لى عربية ولا أتوبيس مكّيف ياخدنى من البيت علشان أحضر حفل الافتتاح الرسمى لقناة السويس الجديدة). صرح بذلك (شعبان عبدالرحيم) لإحدى الصحف اليومية الخاصة، واستند فى تصريحه على كونه واحداً من الداعمين للمشروع، بعدما طرح أغنيته (أول حلم اتحقق)، ويتم تسويق التصريح عبر الفضاء الإلكتروني، وللحق (شعبان) لم يُبادر بالتصريح، فالصحفى الباحث عن (فرقعة) هو الذى اتصل، والمؤسسة الإعلامية الساعية لاجتذاب متصفحى الإنترنت هى التى سوقت، ليتحول الفعل المصرى الحقيقى إلى مجرد منصة قفز لكل مستثمر بغض النظر عن الرؤية الاستثمارية الوطنية لأمة فى حالة استهداف تحاول أن تصنع النموذج بعد أزمنة من الهدم. تبسط شمس أغسطس سطوتها على واقعنا، لتصبح التفاصيل أكثر وضوحاً، ليس (شعبان عبد الرحيم) وحده هو الساعى للحضور فى المشهد بنفس الآليات القديمة، وليست (المؤسسات الإعلامية) هى وحدها التى تتحرك بذات التكتيك القديم لاجتذاب القارئ فى الزمن المختلف، فالعقل الجمعى يدير المرحلة بأدوات لا يعرف غيرها واللافتات عادت للظهور بعدما تغيرت المسميات، حتى أن (مدير ادارة المراغة التعليمية) اعتبر فى تصريحات صحفية أن احتفاله بنموذج الفعل المصرى فى (قناة السويس الجديدة) تجسد فى (لافتة تم وضعها على الوجهة الرئيسية أمام مدخل ديوان عام الادارة التعليمية بالمراغة) . وهذه اللافتة الإنجاز تم صناعتها -حسب تصريحات السيد مدير الإدارة- فى ضوء (توجيهات السيد الدكتور محافظ سوهاج والسيد الاستاذ كيل وزارة التربية والتعليم) . وبتركيز الضوء أكثر على (اللافتات كإنجاز) نكتشف سطحية الوعى الحاكم لصناعها، فركاكة التعبير هى المسيطرة، ونمطية البيان هو الأسلوب الطاغي، ويكفى أن نتوقف أمام لافتة تابعة لمحافظة البحيرة وتحمل صورة محافظها بأكبر ميادين دمنهور تقول (أسيادة الرئيس وعدت فأوفيت) ولكل قارئ أن يتساءل عن سر (حرف الألف) الذى تصدر كلمة (سيادة) ومدى علاقته باجتهاد فريق عمل (العلاقات العامة والإعلام بديوان عام محافظة) وقدرته على أن يعبر فعلاً عن (إنجاز حقيقي) متخلياً عن رتابة وروتينية الأداء الوظيفي، فكلاهما جريمة فى حق العرق الذى سال على القنال والمنجز الذى حققه الرجال، وعندما رفع الرئيس شعار (مصر بتفرح) استهدف من عرق ليُكرم جهده بفرحة جماعية، ومن تابع ليشارك عبر الإعلام البديل فى (فرحة الإنجاز النموذج)، ومن يحمل أمانة المسئولية فى كل درب ليُفَعِّل الفرحة بالإنجاز. وبالتالى يستعيد الرأى العام المصرى الإلكترونى ثقته فى وطنه، ويمتلك العقل الإدارى وعى المرحلة، ولذا ليس المطلوب من محافظ المنوفية مثلاً أن يكون احتفاله بالقناة الجديدة عبر المشاركة فى هشتاج (مصر بتفرح)، لأنه ظل لإدارة دولة قدمت النموذج، وعليه وكل وزير أو محافظ أو مسئول- أن يحتفل بالإعلان عن مشاريع مماثلة فى محافظاتهم . وفرض اللحظة على إعلام وحدات الدولة المختلفة أن يدعم مسئوليها بخطط إعلامية تتجاوز تقليدية (اللافتات) ونمطية بيانات الحضور الإعلامي. لشمس أغسطس مخاطرها فى الكشف، لكن التعرض لها فى ميادين العمل (جهاد) يوازى الجهاد زودا عن الحمى والوطن، ولذا كانت المكاشفة هى عامل التحفيز فى إنجاز قناة السويس الجديدة، فمن اليوم الأول، كان العمل على مرئى ومسمع من الرقابة الشعبية، وهو ما عصمه من مؤامرات (دولية) قادها تنظيم الإخوان الدولي، مدعوماً بأجهزة مخابراتية ودولية، قالوا فى المشروع ما قال مالك فى الخمر، راهنوا على الفشل -وما زالوا-، وشنوا حملات لم تنقطع حتى لحظتنا هذه، لكن لعرق المخلصين من الرجال قوته فى إذابة كل صخور الكراهية المضادة، ويتطلب الإخلاص لهذا العرق من الجميع امتلاك خيال (البناء) والقدرة على الاستثمار الإيجابى للحدث، وتفعيل طاقات وحدات المجتمع المعطلة وتدوير ماكينات موظفيه الصدأة، وما وزارة الآثار من واقعنا ببعيد، فلقد قررت الاحتفال بالقناة الجديدة فى ميدانها (المواقع والمتاحف الأثرية)، وربطت النموذج بتخصصها عبر إقامة ثلاثة معارضا تستمر على مدى شهر. أول هذه المعارض خاص بالاكتشافات الأثرية بمنطقة المدخل الشرقى لقناة السويس، والثانى معرض للآثار بمتحف السويس القومى يضم عددا من الصور الفوتوغرافية والقطع الأثرية التى تحكى إنشاء قناة (سيزوستريس) أول قناة تم شقها فى التاريخ لربط نهر النيل بالبحر الأحمر. والمعرض الثالث معرضاً لآثار أول متحف إقليمى تم إنشاؤه فى مصر أثناء حفر القناة الأولى بتمويل شركة قناة السويس العالمية، ويعرض القطع الأثرية المكتشفة بواسطة البعثات الفرنسية أثناء حفر قناة السويس الأولى فى القرن الثامن عشر، بالإضافة إلى عرض نتائج أعمال الحفائر المصرية فى محور قناة السويس الجديدة، هذا النموذج الذى قدمته (وزارة الآثار) رغم عدم الاحتفاء به إعلامياً، لكنه يؤكد أننا بلا شك -رغم كل وهن أصابنا- قادرون على التعافى وفاءً لكل قطرة عرق سالت فى قناة السويس الجديدة. إن سفور شمس أغسطس فى الإعلان عن نفسها، يشير إلى وجوب امتلاك مصر لاستراتيجية إعلامية تتجاوز حدود الحديث عن (ميثاق شرف إعلامي)، وتتخطى هواجس العودة لعصر الرأى الواحد، وتقفز على ألغام الحريات التى دفنها فى واقعنا نظام خُلع ونظام عُزِل، وتربط صناعة الإعلام بمنظومة وطنية تُلِمْ باحتياجات الواقع، وتوفر الدعم لإدارة الإعلام فى النسيج الإدارى للدولة حتى يتحول احتفالنا بالإنجازات القومية إلى طاقة دافعة للمجتمع كله، وحتى يبرأ البدن الإعلامى المصرى من تخمة أصابته، وحتى نتعافى من علل الاحتفاليات ب اللافتات فى ضوء التوجيهات لمزيد من مقالات عبد الجليل الشرنوبى