عندما احتفل الوالى محمد على بعقد قران ابنه إسماعيل فى آخر يوم من أيام عام 1813... كان أهل الحرف والصناعات يتحركون بعرباتهم التى تمثل حرفهم ليشاركوا بها فى زفة العروس. ويقال, والعهدة على الجبرتى, إن عدد هذه العربات قد بلغ إحدى وتسعين عربة, بخلاف أربع عربات مخصصة للعروس، كان أمام كل عربة أهل حرفتها وصناعها مشاة خلف الطبل والزمر . كانوا يمرون تحت بيت الباشا ويأتى كبير الحرفة بورقته إلى المتعين لملاقاتهم، فينعم على كبير الحرفة بخُلعة ودراهم، وكان البعض يحصل على شال كشميرى وألفين فضة. وكان يمنح بعضهم طاقية تفصيلة قطن وأربع أذرع جوخ، كل على قدر مقام الصنعة وأهلها. فمهارات وفنون الحرف باب لا يدخل منه كل من ظن فى نفسه مقدرة. فمن الصعب الارتقاء من درجة صبى إلى درجة العريف، فما بالنا بالوصول إلى درجة رئيس التى تتطلب إتقانا تاما للحرفة. فكل شئ تحدده اختبارات الإجادة، كان هذا هو حال أهل طوائف الحرف فى مصر, وخاصة الاسكافيه والحلاقين والحمامية, الذين اعتبروا هذا الاختبار شهادة ميلاد أخرى. ولا غرابة فيما أقول, فأهل الحرف هم أبطال «أيام القاهرة»، كما يقول د. عبد السلام عبد الحليم عامر فى كتابه «طوائف الحرف فى مصر» وكانت تقام فى أيام معينة ومناسبات يختارها الناس بالقاهرة. ففى أيام القاهرة كان يحلو للناس أن يروا العربات تمرق فى الحوارى والطرق، وكل عربة تدل على صاحب حرفة، فالعجين يدل على عربة طائفة الخبازين والفرانين، والدقيق والسكر يدل على عربة الحلوانية. مشهد اعترته بعض المتغيرات بعد أن دخلت مصر مرحلة صناعة النسيج والتسليح، وما أتبعه ذلك من محاولات الغرب تخريب ما قدمه محمد على باشا- الحلوانى الكبير الذى بنى مصر- للاقتصاد القومى، ومما يذكره الكتاب أن عدد سكان القاهرة قدر بحوالى 300٫000 نسمة فى إحصاء قبل الحملة الفرنسية، كانت نسبة الحرفيين تمثل 63٪. وفى بداية القرن التاسع عشر وصلت عدد الطوائف إلى 94 طائفة، وصلت إلى 164 طائفة عام 1840 من النجارين والجزارين والدقاقين والقزازين والخياطين والاسكافية والسباكين والخبازين والسروجية والجزارين والنقاشين والفحامين وغيرهم. وهنا نستكمل حديثنا عن أسطوات مصر المحروسة، لنقدم رؤيتين: إحداهما للدكتور عبدالرؤوف يوسف, أحد أعمدة الآثار الاسلامية فى مصر, وقد قدمها للأهرام ضمن مقالات عنيت بتأصيل تاريخ القاهرة، والأخرى رؤية للصناعات التراثية التى أوشكت على الاندثار للزميل الأستاذ وجدى رياض ..فعسى أن يعود حرفيو مصر المحروسة إلى مكانتهم، وأن نرى فى كل شارع مصرى أصحاب الحرف الاسطوات.