المتابعون لخطب وبيانات وتصريحات الرئيس عبد الفتاح السيسى منذ توليه الرئاسة فى يونيو 2014، سوف يلاحظون تشديده على «عودة الدولة» واستعادة مؤسساتها والتحذير ان الذين يستهدفون مصر يريدون تفكيك الدولة وهو فى هذا السياق يذكر بما آلت إليه دولا مثل ليبيا، وسوريا، واليمن، وهكذا كانت «عودة الدولة» وبناء مؤسساتها دافعا للخبراء والأكاديميين ان يناقشوا هذه القضية بأبعادها التاريخية، وكذلك المعاصرة ما قبل ثورة 25 يناير، والفترات التى لحقتها من الحكم الانتقالى الذى تولاه المجلس العسكرى الذى تولى السلطة بعد تنحى حسنى مبارك، وكذلك فترة تولى محمد مرسى، وإخفاقات حكمه وبالتالى انعكاساتها على كيان الدولة واحترامها وهيبتها، ثم التطور الذى أتت به ثورة 30 يونيو والتى أصبح احد أهدافها النظام الجديد هو استعادة ودعم الدولة ومؤسساتها. غير أن عملية عودة الدولة ومؤسساتها لم تكن بالأمر السهل حيث تصادفها العديد من المعوقات والتى أصبحت من تحديات نظام ما بعد 30 يونيو. ويعد كتاب «عودة الدولة: تطور النظام السياسى فى مصر بعد 30 يونيو ( الدار المصرية اللبنانية 2015) الذى ألفه الأستاذ الدكتور على الدين هلال، ود. مى نجيب ود. مازن حسن، امتدادا للكتاب الذى أصدره المؤلفون فى مطلع عام 2013 بعنوان « الصراع من اجل نظام سياسى جديد.. مصر بعد الثورة» الذى تناول مرحلة الانتقال الأولى التى أعقبت ثورة يناير حتى نهاية عام 2012. وبداءة يوضح الكتاب ان مفهوم «عودة الدولة» مرتبط بدراسة النظم السياسية من منظور اقتراب علاقة الدولة بالمجتمع، ويشير مفهوم « هيبة الدولة» إلى معانى الاحترام والتوقير والثقة وامتلاك الخبرة والدارية والحكمة. وتنطبق هذه السمات على مرحلة حكم الرئيس الأسبق محمد مرسى وحيث بدت بوضوح ظاهرة «استنزاف الهيبة» ومنها على سبيل المثال: • افتقار النخبة الحاكمة لسلوكيات رجل الدولة. • شرعية الأداء • توتر العلاقة بين مؤسسات الحكم • تراجع القدرة على حفظ القانون والنظام ويؤصل الكتاب لمراحل مؤسسات الحكم الحديثة فى مصر التى تعود الى القرن التاسع عشر فى: • مرحلة نظام يوليو – عهد الرئيس جمال عبد الناصر وتتسم بسمات متعددة. • عهد الرئيس محمد أنور السادات وشهدت بداية التغيير فى شكل النظام السياسى . • عهد الرئيس محمد حسنى مبارك. ثم مرحلة البحث عن نظام سياسى جديد ( 2011-2013) ويمكن تقسيم هذه المرحلة إلى ثلاث مراحل فرعية هى : المرحلة الانتقالية الأولى فى ظل المجلس الأعلى للقوات المسلحة، ومرحلة حكم الرئيس محمد مرسى، والمرحلة الانتقالية الثانية فى أعقاب 3 يوليو 2013. هذا الاستعراض لتطور المؤسسات السياسية فى مصر يراه الكتاب تأكيداً للدور المركزى لرئيس الجمهورية، والطابع النخبوى للأحزاب وضعف الحياة الحزبية. ويهدف الفصل الأول من الكتاب إلى التعرف على بيئة النظام السياسى قبيل اندلاع تظاهرات الثلاثين من يونيو، من خلال التركيز على أهم العوامل التى أدت إلى اندلاع التظاهرات، والفاعلين السياسيين فى مرحلة ماقبل 30 يونيو، وأخيرا تحديات البناء المؤسسى الجديد واهم المعوقات التى واجهت خارطة المستقبل . أما القسم الثانى من الفصل الثانى وهو « أنماط وأطراف التحالفات والصراعات» يتعرض لأهم الفاعلين السياسيين على الخريطة السياسية المصرية قبيل ثورة يونيو، حيث اتسمت الحياة السياسية أثناء حكم الإخوان باستقطاب سياسى واضح بين عدة قوى فاعلة، والتى يمكن تحديدها فى قوى تيار الإسلام السياسى بتفريعاته المختلفة، والتيار المدنى وظهور حركة «تمرد» ثم مؤسسة الجيش والتى أكدت على وجودها كفاعل رئيسى فى الحياة السياسية خاصة بعد بيان الجيش وإمهاله 48 ساعة لكافة القوى السياسية لاحتواء الموقف بعد تظاهرات 30 يونيو. ويستعرض هذا الجزء لأهم السمات التى تميز كل طرف من هذه الأطراف، ونقاط القوة والضعف، وطبيعة التحالفات التى تمت بين هذه الأطراف. اما القسم الثالث بعنوان « تحديات البناء المؤسسى الجديد» يشمل وقائع وأحداث ثورة الثلاثين من يونيو، وعملية صياغة خريطة المستقبل والتحديات التى واجهتها، والتغيرات الطارئة على خريطة القوى السياسية، وردود فعل تنظيم الإخوان بالإضافة الى ردود الفعل العربية والدولية تجاه ما حدث فى الداخل المصرى. ويعتبر الكتاب أن مصر من الدول ذات الخبرة الدستورية الممتدة التى شهدت 23 وثيقة دستورية، والإعلانات الدستورية كان أولها ( لائحة) 1866حتى وضع دستور 2014 والبيئة السياسية التى تمت فيها. وحيث كان من أهم مقوماته: 1-الدولة والهوية 2- المساواة بين المواطنين 3- المقومات الاجتماعية والثقافية، تشير هذه المقومات الى الأسس التى ينهض عليها المجتمع. وينتقل الكتاب الى النظام الحزبى بعد 30 يونيو، حيث تتفق اغلب أدبيات الأحزاب السياسية على وجود ثلاث خصائص رئيسة يجب الاستعانة بها فى توصيف هذه النظم هى: • عدد الأحزاب بالنظام الحزبى، كمؤشر على درجة تفتته fragmentation . • الانقسامات الرئيسة cleavagesللأحزاب المشكلة للنظام الحزبى. • درجة المأسسة institutionalization وبتطبيق هذه المعايير على مقدمات ثورة 30 يونيو، يكتسب الحراك المجتمعى أهمية خاصة عند دراسة الحالة بعد ثورة الثلاثين من يونيو. حيث كان من أهم السمات الرئيسية لعمليات التغيير الثورى خروج المشاركة السياسية من الأطر التقليدية الرسمية الى اطر غير رسمية، والاعتماد المتزايد على الفعل الاحتجاجى والعمل السياسي والحقوقى كبديل عن المشاركة المؤسسية الرسمية. فى هذا الإطار، تبرز العديد من الأسئلة المهمة حول طبيعة الدور الذى لعبه المجتمع المدنى فى سياق مرحلة مابعد الثلاثين من يونيو، وهل كان دوره هو الدافع للخروج على النظام ومطالبته بالرحيل؟ وكيف يمكن تقييمه بعد الثورة؟ وهل بالفعل بات إحدى آليات التحول الديمقراطى واحداث تغيير سياسى؟ وفى إطار الحديث عن الشباب، يلاحظ الكتاب ان الحركة الطلابية اتسمت بزخم شديد خلال فترة 30 يونيو وما بعدها نتيجة للتفاعل مع الأحداث السياسية التى مرت بها مصر. والسؤال الآن : ما مستقبل الحركات الثورية والشبابية بعد جل تلك التحديات التى تواجهها؟ فى إطار العوامل السابقة، إن مهمة الحركات الثورية فى مرحلة بناء الدولة ليست بالسهلة، فى ظل افتقارها للخبرة السياسية والايديولوجية الواحدة، واختلاف المصالح وهو الأمر الذى يحتم عليها اللجوء إلى الانخراط فى العمل السياسى من جديد والاستفادة من تجربتها السابقة ومحاولة تلافى سلبياتها. وينبه الكتاب انه كان واضحا ان ملابسات المرحلة الانتقالية فى مصر بعد انتخابات الرئاسة 2012 قد أسهمت فى إعادة إنتاج حكم الفرد وشخصنة السلطة. فالرئيس ظل يجمع لشهور بين سلطتى التشريع والتنفيذ. ولما تم إقرار الدستور كان البرلمان ( ممثلا فى مجلس الشورى) بالغ الضعف والهزال. وهو سيناريو لا يجب ان يتكرر فى المرحلة التالية، فى ظل ضعف الأحزاب. ونظرا لتلك التطورات الحادثة فى بنية السلطة التنفيذية بعد 3 يوليو، سيتناول الفصل بالتحليل أداء كل من الرئيس المؤقت والمنتخب سواء على المستوى المؤسسى أو على مستوى التوجهات السياسية المحلية. وسيعرض الفصل أيضا لتطور التشكيلات الوزارية بعد 3 يوليو، بتحليل تشكيل الوزارة ونخبتها الوزارية لوزارة الببلاوى ومحلب الاولى والثانية. وفى هذا السياق، اهتم الباحثون بدراسة عمل القضاء فى ظروف الثورات وعدم الاستقرار السياسى، وتأثير هذه الظروف على قيام المحاكم بدورها خاصة فى الحالات التى تنهار فيها المؤسسات التنفيذية والتشريعية ولايبقى من كيان الدولى سوى السلطة القضائية. وفى مثل هذه الحالات يتعرض القضاء لضغوط بالغة تشمل التهديد بتجاوز النظام القضائى برمته، وإقامة محاكم ثورية، والتهديد بتطهير القضاء، وسعى الأطراف السياسية المتنافسة لاستخدام القضاء لتحقيق أهدافها. ويركز الكتاب فى هذا السياق على دراسة دور السلطة القضائية فى مرحلة ما بعد ثورة يونيو. والحقيقة انه لايمكن القيام بذلك دون الرجوع إلى أهم معالم تطور العلاقة بين القضاء والسلطتين التنفيذية والتشريعية فى فترة حكم الرئيس مرسى وخاصة فى ديسمبر 2012، ثم تناول الاستمرار فى توسع دور القضاء واهم الأزمات الداخلية التى تعرضت لها السلطة القضائية. ويتعرض الكتاب إلى بعد هام من أبعاد « عودة الدولة»، وهو الخاص بدور الدولة الاقتصادى والاجتماعى وبناء مشروع تنموى مستقل، وعودة تصدر الدولة للمشهد السياسى وازدياد اصطفاف التيار الرئيسى للشعب حولها ومن خلفها، وتصاعد قدرتها على تنظيم العلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ويُذكر بأن دور الدولة فى العقد الأول من القرن الحادى والعشرين قد عانى من حالة ضعف وترهل فى البنية المؤسسية، وتراجع فى الأداء والانجاز، وتمثل ذلك فى تدهور اغلب مؤشرات التنمية البشرية وانتشار البطالة والفقر. وأدت أزمة المشاركة وانتشار مظاهر العزوف واللامبالاة السياسية، فضلا عن التدخل الادارى للتأثير فى نتائج الانتخابات العامة إلى تنامى دور الحركات الاحتجاجية الشبابية وتنظيمات تيار الاسلام السياسى. ويعود الكتاب الى حالة عدم الاستقرار فى مؤسسات الدولة وتداعيات إعصار التغيير والثورة فى 2011 لتضيف الى عناصر عدم الاستقرار فى مؤسسات الدولة، فلم يكن اى منها قادرا على مواجهة هذا الإعصار وتداعياته. اتسمت المرحلة الانتقالية الأولى بغياب دور الدولة كفاعل رئيسى واهتزاز ثقة المجتمع بمؤسساتها وبقدرتها على حكم البلاد، لاسيما فى ضوء عدم قدرة الحكومات المتتالية على تحقيق الأمن والاستقرار، خصوصا بعد انهيار جهاز الشرطة والانكسار الذى أصاب علاقته بالمواطنين. وأدى ذلك الى نشأة حالة من الانفلات الامنى غير المسبوق، وبروز أعراض الانقسام السياسى والتفكك الاجتماعى والقيمى. وقد جاء سقوط حكم الرئيس المعزول مرسى، فى يوليو 2013، لكى يمثل بداية مرحلة استعادت الدولة المصرية فيها زمام المبادرة وطرحت مشروعها الوطنى للتنمية الاقتصادية والتحديث السياسي والاجتماعى . وحددت خارطة المستقبل. وفى عملية بناء النظام الجديد واجهت القيادة الجديدة عديدا من المشاكل والأزمات؛ كتراجع معدل النمو الاقتصادى واستمرار عجز الموازنة وانتشار الفقر والبطالة، والعنف السياسى وممارسات التخريب والإرهاب الذى لجأ اليه أنصار جماعة الإخوان، وبروز موقف دولى غير موات. وتأسيسا على هذه الحالة المعنوية، انطلقت القيادة الجديدة بمشروعات عملاقة وحلول مبتكرة « خارج الصندوق» وكان من شأن ذلك ازدياد اصطفاف المصريين حول الرئيس والنظام. فى هذا السياق تبنت الحكومة مجموعة من سياسات الإصلاح والتطوير فى شتى المجالات. ففى المجال الاقتصادى، وإضافة الى المشروعات العملاقة عملت الحكومة على توليد مصادر مالية جديدة وتحقيق الانضباط المالى. وتطرح هذه السياسات مفهوما للدولة وهو الدولة التنموية التى تقود قاطرة التنمية وتقوم بأدوار اقتصادية واجتماعية وتنهض على تحقيق العدالة وتكافؤ الفرص ويشير هذا التوجه الى تعاظم دور الدولة فى المرحلة القادمة. غير أن عملية استعادة الدولة وكيانها تواجه فى مصر فى تقدير الكتاب عددا من التحديات : التحدى الأول لكيان الدولة فى أعمال العنف والإرهاب المنظمة التى طالت اغلب المحافظات ، ويتمثل التحدى الثانى فى تدهور الأوضاع المعيشية للفقراء ومحدودى الدخل وما يترتب على ذلك من اهتزاز لشرعية النظام. ويتمثل التحدى الثالث فى الحفاظ على استقلالية القرار الخارجى وإدارة علاقات إقليمية ودولية تقوم على أساس المصلحة الوطنية المصرية. ويتمثل التحدى الرابع فى إدارة عملية انتقال إلى الديمقراطية تحقق المطالب الشعبية فى المشاركة وضمان نزاهة الحكم. ويكمن فى هذه التحديات عدد من المفارقات يبرزها الكتاب فيما يلى: المفارقة بين تحقيق الانتقال الى الديمقراطية وضعف الأحزاب التى تمثل الركيزة الأساسية فى الانتخابات العامة . والثانية تتمثل فى المفارقة بين متطلبات مواجهة الإرهاب والعنف بما قد يتطلبه من إجراءات أمنية مشددة والتضييق على المجال العام واعتبارات احترام حقوق الإنسان وتفعيل المجتمع المدنى. والثالثة المفارقة بين ازدياد الدور الاقتصادى التنموى للقوات المسلحة ومتطلبات تبلور قطاعا خاصا قادرا على الإسهام فى تحمل أعباء التنمية. .على اية حال يجئ هذا الكتاب لكى يعكس ما ذكرناه فى المقدمة من تركيز نظام ما بعد 30 يونيو ورئيسه على مفهوم عودة ودعم الدولة وكيانها ومؤسساتها خاصة بعد عاصفة وتداعيات 25 يناير 2011، والتآكل الذى حدث فى مؤسسات الدولة ومقوماتها بل وهيبتها. والواقع ان الكتاب فى استخلاصاته عن واقع ومستقبل نظام مابعد 30 يونيو، قد وضع يده، وان كان بايجاز كبير، على التحديات التى يواجهها. وسوف يظل التعامل مع هذه التحديات هو الذى سوف يحدد مستقبل هذا النظام. وهكذا يجيء هذا الكتاب « عودة الدولة....تطور النظام السياسى فى مصر بعد 30 يونيو»، بعد أن عبرت مصر مرحلة اهتز فيها كيان الدولة ومقوماتها، وربما كان هذا من دوافع ثورة 30 يونيو، الآمر الذى كان من أهم أهداف نظام ما بعد 30 يونيو والتشديد علي استعادة الدولة وهيبتها واحترامها، وبناء مؤسساتها . ونرجو أن يكون النظام قد قطع شوطا مطمئنا في هذا الاتجاه. غير انه إذا كانت الحاجة، وستظل، ملحة لاستعادة مؤسسات الدولة وتماسكها وفعاليتها غير انه مما لا يقل إلحاحا هو الحاجه إلي تحديث Modernization مؤسسات الدولة ووضعها على المستوى الذى يتفق مع المستويات العالمية فى الأداء والانجاز، فلا يعقل أن تظل معظم مؤسسات الدولة تعمل بأدوات وعقلية وقوانين عقود مضت حدث فيها طفرة عالمية وتكنولوجية، ومستويات بشرية تستطيع ان تستوعب وتتعامل مع أدوات العصر فى الإدارة والانجاز.