لا شك أن كلمة الغش, ولفظ الغشاشين, وسُبَّة «الغشاش», مما ينفر منه الطبع السليم, ويأباه الخُلق الكريم , فضلاً على رفض جميع الأديان وتحريمها له. قد أكد ديننا الحنيف على حرمة الغش , فقال نبينا (صلى الله عليه وسلم) : «من غشنا فليس منا», وفى رواية : «من غش أمتى فليس منى», وفى رواية : «من غش فليس منى », وفى هذه الرواية الأخيرة التى وردت فى صحيح مسلم بحذف المفعول ما يؤكد على عموم حرمة الغش . وكنت أحاور بعض طلاب الثانوية العامة أكثر من مرة, وأؤكد لهم أن قسمة المرء وحظه فى الحياة لا يرتبطان بمسمى الشهادة أو نوعها , وإنما يرتبطان بعد فضل الله - عز وجل- وتوفيقه بمدى اجتهاد الإنسان وجده ومستوى تحصيله وفهمه وتطبيقه. والتوعية بمخاطر الغش ينبغى أن تكون إيمانية, وثقافية, وتربوية, ومجتمعية, فمن الجانب الإيمانى نؤكد أن ما عند الله (عز وجل) لا يمكن أن ينال بمعصيته . وبما أننا مع بدايات الشهر الكريم ينبغى أن نعمل على تقوية حسن المراقبة لله (عز وجل) , فالذى يراقب صومك وصلاتك وإمساكك عن الطعام والشراب هو من يراقب جميع حركاتك وسكناتك وسائر تصرفاتك, وهنا نذكر قصتين هادفتين لحسن المراقبة, الأولى: لهذه الفتاة التى طلبت منها أمها أن تمزج اللبن بالماء، فقالت لها: يا أماه أو ما علمت ما كان من عزمة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب اليوم ? قالت: وما كان من عزمته يا بنية? قالت : إنه أمر مناديه فنادى أن لا يشاب اللبن بالماء، فقالت لها : يا بنية قومى إلى ذلك اللبن فامذقيه بالماء، فإنك بموضع لا يراك عمر ولا منادى عمر ، فقالت الصبيَّة لأمها : يا أُمَّاه والله ما كنت لأطيعه فى الملأ وأعصيه فى الخلاء، كل ذلك وأمير المؤمنين يستمع، وقد سرته أمانة الفتاة، وضميرها الحي، فاختارها زوجة لابنه عاصم، وكان من ذريتها الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز (رضى الله عنه) . والأخرى : ما كان من ذلك الراعى الذى قال له عمر بن الخطاب (رضى الله عنه) : بعنى شاة من هذه الغنم، فقال: إنى مملوك وهذه الغنم لسيدي، فقال عمر: - اختبارا له - قل لسيدك أكلها الذئب ، فقال الراعي: إذا قلت لسيدى هذا ؟ فماذا أقول لربى يوم القيامة ؟ فبكى عمر بن الخطاب ، واشترى هذا العبد من سيده وأعتقه ، وقال: أعتقتك فى الدنيا هذه الكلمة ، وأرجو أن تعتقك فى الآخرة . وينبغى أن تتضافر جهود سائر المؤسسات الدينية, والتربوية, والتعليمية, والثقافية, والإعلامية, والأمنية فى مواجهة جميع ظواهر الغش , وفى جميع اتجاهاته ، سواء أكان غشًا فى الامتحانات , أم غشًا فى الصناعات, أم غشًا فى الزراعات, أم غشًا فى التجارات , فالغش كله داء فتاك بعقول المجتمعات وباقتصادها وبأخلاقها . على أن الصامت على الغش أو المشارك فيه لا بد أن يكتوى بناره , وإذا صار الغش ثقافة ومر دون محاسبة فإن الأمر سيكون جد خطير . وقد هالنى ما اطلعت عليه من وسائل الغش ، فعلى سبيل المثال لا الحصر فى جانب واحد , وهو الغش فى الامتحانات, صار ذلك صناعة وتجارة, ما بين, ونظارات متلصصة, وأقلام مسمومة, وأغطية رأس مدمرة للعقل والمخ, وكروت فيزا كارت مقلدة, وسماعات أذن وصل الأمر إلى زراعتها داخل أذن بعض الطلاب والطالبات, ومواقع تواصل مجرمة منحرفة, مما يتطلب سرعة النظر فى استصدار قانون حاسم لتشديد العقوبة على جريمة الغش والغشاشين, وأرى أن تصل إلى حد التجريم. وإلى جانب تجريم الغش التعليمي, فلا يقل عنه خطورة من يتاجر بأقوات الناس سواء فى مجال الزراعات أم الصناعات التى تضر بصحة المواطن أو تدمرها على المدى القصير أو المتوسط أو الطويل, من خلال تجريم تداول واستخدام المبيدات المسرطنة والإضافات الصناعية المحظورة التى تفتك بصحة البشر, وتقتلهم عن عمد وقصد, بغية التربح والثراء الفاحش . وهنا ونحن فى رمضان نذكّر بحديث نبينا (صلى الله عليه وسلم ): «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة فى أن يدع طعامه وشرابه». ولا شك أن الغش إنما هو عمل من أعمال الزور والتدليس بل الإجرام, فكيف بعاقل يمسك عن الطعام والشراب, ثم يفطر على طعام حصل ثمنه من حرام عن طريق الغش والزور والتدليس ؟! فرب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش, ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر والتعب , وكل جسد نبت من سحت فالنار أولى به . لمزيد من مقالات د . محمد مختار جمعة