«عندما كنت بصدد إتمام أطروحة الدكتوراة في موضوع الحماية الجنائية للمرأة، كثيرا ماكانت أوضاع النساء المطلقات تؤرقني. ومع الوقت بدأت أدرك من خلال الدراسة أنه عندما تكون هناك قاضية علي منصة القضاء، فإن الوضع سيكون أفضل لأنها ستكون أقدر علي تفهم سيكولوجية نظيراتها من النساء، ولقد عزمت من خلال عملي الجديد في سلك القضاء أن أقوم بدراسة الثغرات التي من الممكن أن تكون موجودة في قانون الأحوال الشخصية «هكذا بدأت دعاء حداد، 30 عاما حديثها بنبرة يتزاوج فيها الأمل والتحدى، لم يكن للحلم حدود بالنسبة لتلك الفتاة السكندرية التي ستصعد في غضون أيام قليلة علي منصة القضاء لتكون هكذا أول سيدة في مدينتها تشغل هذا المنصب وهو الأمر الذى يشكل لها تحديا حقيقيا لا سيما وأن الأهالي هناك لم يعتادوا رؤية مشهد القاضية في محاكمهم. ومنذ الوهلة الأولى تبدو حداد وقد تأهلت لاعتلاء المنصة بهيئة كلاسيكية محافظة، مكياج هادىء و نبرة صوت رزين. « بدأت أجري تغييرا جذريا في دولابها، فالألوان الصارخة ، والملابس الضيقة والأكسسوارات المبهرجة لم تعد تلائمني، فقط البدل الداكنة وغطاء الرأس البسيط اللذان يتواءمان والتقاليد العريقة للقضاء المصري «. ورغم أن حداد قد اجتازت بنجاح اختبارات القبول لهذا المنصب ضمن 184 مرشحة أخري، لكن تحديات المهنة تبدو كبيرة بالنسبة لتلك القاضية الصاعدة و التي تطمح إلى أن تعتلي منصة محاكم الجنح و الجنايات. وهي تقول «إذا كانت الدفعة الأولي من القاضيات اللاتي دخلن الميدان عام 2007 قد قمن بفتح الباب لنا، فإن مهمتنا هي استئناف مشوار المرأة تحت هذه القبة، إذ يكمن التحدى الحقيقي في نجاحنا داخل المحاكم المختلفة و الذى سيسهل علي صناع القرار تعيين مزيد من النساء في هذا المنصب الرفيع ».
حداد هي في الواقع واحدة ضمن 26 قاضية جديدة تم تعيينهن كدفعة ثالثة للعمل في هذا المضمار، وهى خطوة هامة علي طريق الحركة النسائية في مصر. فقد ناضلت النساء منذ منتصف القرن الماضي لانتزاع هذا الحق. وذلك عندما تقدمت الدكتورة عائشة راتب عام 1951 للترشح لمنصب قاضية، لكن طلبها قوبل بالرفض بموجب حكم من المحكمة الإدارية بحجة عدم الملائمة رغم أن راتب قد شغلت فيما بعد منصب أول سفيرة لمصر في الدنمارك و ثاني وزيرة للشئون الاجتماعية (1974-1977).
لكن نضال المرأة المصرية من أجل اعتلاء منصة القضاء لم يؤت ثماره الا بعد أكثر من نصف قرن مع تعيين المستشارة تهاني الجبالي عام 2003 كأول قاضية في تاريخ مصر، و مع ذلك كان لابد من انتظار ثلاث سنوات أخرى ليتم تعيين أول دفعة للقاضيات في عام 2007 ثم دفعة ثانية في العام التالي كي يبلغ عدد النساء المنخرطات في سلك القضاء قرابة 41 سيدة، و يبدو أن الجو العام أصبح أكثر تقبلا للتواجد النسائي في هذا الصرح لا سيما مع صدور الدستور الجديد عام 2014. إذ نصت المادة 11 على أن تكفل الدولة «للمرأة حقها فى تولى الوظائف العامة ووظائف الإدارة العليا والتعيين فى الجهات والهيئات القضائية، دون تمييز ضدها». والجديد في هذا أن المشرع الدستوري لم يقنع بالنص العام على أن الوظائف حق للمواطنين على أساس الكفاءة، ودون محاباة أو وساطة (م 14)، فهذا النص لم يكن كافياً في الماضي لضمان حق المرأة في تولى الوظائف القضائية. ومع ذلك تبدو التحديات كثيرة أمام النساء حتي من حظين بفرصة الصعود علي منصة القضاء.
فعلي مستوي التأهيل المهني، ما زالت القاضيات يتعانين التمييز مقارنة بنظرائهن من الرجال، وطبقا للقانون يحق للعاملات في السلك القضائي التنقل بين المؤسسات القضائية المختلفة ،لذا فكثيرات ممن اعتلين منصة المحكمة قادمات في الواقع من النيابة الإدارية و هيئة قضايا الدولة بينما يصعد نظيرها الرجل السلم القضائي من بدايته في مجال النيابة العامة ويكتسب بدوره الكثير من الخبرات في مجالات شتي خلال تدرجه الوظيفي، لكن النيابة العامة ما زالت موصدة أمام النساء أو كما تصف أمل عمار، مستشارة بمحكمة استئناف الإسماعيلية و عضو المجلس القومي للمرأة « عندما تم تعيننا كقاضيات كنا في سباق مع الزمن كي نتمم الدورات التدريبية اللازمة التي منحتنا اياها وزراة العدل. ورغم اننا نجحنا في مهمتنا لكن علينا أن نبذل جهدا مضاعفا للحاق بالقضاة من الذكور. لذا اعتقد ضرورة منح الجنسين فرصة عادلة لدخول القضاء عبر البوابة الشرعية الا و هي النيابة العامة التي تعد الحضانة لتفريخ العاملين في سلك القضاء»
تواجه المرأة داخل القبيلة القضائية تحديات أخري، فهناك بعض القضاة المحافظين الذين لا يقبلون بسهولة أن تتكاتف النساء معهم علي منصة القضاء، فعندما تم تعيينها كقاضية عام 2007، واجهت المستشارة رشا منصور شكلا آخر من التمييز، ورغم أنها أثبتت كفاءتها سريعا فكانت أول سيدة في مصر تنصب كرئيس دائرة كلية مؤلفة من ثلاثة قضاة فضلا علي عملها في القضاء المدني وقضاء العمال والمال والوراثات قبل ان تترقي لمنصب مستشار بمحاكم الاستئناف ومفتش أول قضائي بوزارة العدل. لكن الأمور لم تكن تسير علي ما يرام في مستهل عملها، «إذ كان أحد الزملاء يرفض أن يصعد علي منصة ترأسها سيدة، لقد كانت مبررات الرجل كثيرة ومستترة لكن بعد مناقشته تبين أن هذا هو الدافع الأساسي وراء رفضه و ذلك رغم انني و كثيرا من القضاة قد استفدنا عمليا بالعديد من المبادىء القضائية التي كانت قد ساهمت في ارسائها في ورش العمل الخاصة بقوانين البناء. « هكذا يروى وليد سعيد، رئيس محكمة الاستئناف الاقتصادية بالقاهرة. ورغم شهادته النزيهة في حق إحدى القاضيات تعرقل النظرة الذكورية المتحفظة مسيرة النساء داخل محراب القضاء، تتفق قاضية أخرى رفضت ذكر اسمها مع سعيد في الرأي و تضيف « ربما لا تكفي فقط الإرادة السياسية التي تدعم الوجود النسائي كي يتقبل التيار المحافظ وجودنا لا سيما وأن البعض يري أن استقلالية القضاء لها قدسيتها ولا يجب ان تخضع لأى حسابات من خارج الجماعة القضائية «.
ولا يقتصر الأمر علي ذلك. فالبعض كان يعتقد مع حداثة وجود النساء كقاضيات ان عملهن سيقتصر علي محكمة الأسرة في قضايا الأحوال الشخصية، لكنهن انطلقن إلي أبعد من ذلك بكثير، كما أن مشهد القاضية التي تعتلي المنصة لم يعد جزءا من الحياة اليومية لسكان القاهرة، لكن هؤلاء النساء ظهرن في محاكم في محافظات الوجه القبلي و البحري. فإذا كانت المستشارة فاطمة قنديل هي أول سيدة تظهر في المحاكم الجنائية بمحافظة الاسماعيلية لتداول قضايا القتل و الإرهاب، فإن سالي الصعيدى هي رائدة القاضيات في قضايا الجنح الخاصة بمحاكمة الأحداث بينما تعد جيهان البطوطي أول قاضية تعتلي منصة جرائم الاحداث. تقول أمل عمار « لقد حققت النساء في 8سنوات الكثير رغم قصر عمر القاضيات علي المنصة. و مع ذلك فإن هناك بعض المؤسسات كمجلس الدولة و محاكم النقض، ما زال تواجد السيدات فيها يسجل رقم صفر ».
أما المحكمة الدستورية العليا فإن نسبة التواجد النسائي فيها لا تتعدى سيدة واحدة رغم أن المستشارة تهاني الجبالي قد تربعت علي قمتها منذ عهد ليس بعيدا، ربما تؤرق تلك الأبواب الموصدة امام النسوة، القاضيات الجدد. نشوي حافظ، إحدى الطامحات لتغيير تلك الأوضاع. و هي تروي أنها عندما كانت تدرس في فرنسا في المدرسة القومية للادارةEcole nationale d'Administration ( ENA)، أن زملاءها كثيرا ما كانوا يتوقعون لها عند عودتها أن تلتحق بمجلس الدولة نظرا لأن أوائل هذه المدرسة يتوجهون هناك بشكل تلقائي إلي هذه المؤسسة القضائية. « ربما أثارتني ردود أفعالهم عندما أبدوا أستغرابا بعد أن اخبرتهم أن مجلس الدولة ببلدى لا يوافق علي تواجد النساء، فعلامات التعجب التي بدت علي وجوههم هي ما أعطتني الدفعة لتغيير هذه الأوضاع ». هكذا تمضي القاضية الشابة التي تأمل يوما في تحريك تلك المياه الراكدة ورؤية أعمال درامية وإعلامية تقدم صورة نساء علي منصة القضاء لتدخل البيوت عبر شاشات التلفاز من أجل تعبيد الطريق أمام مزيد من النساء الطامحات إلى دخول محراب العدالة .