على مائدة إفطار.. البابا تواضروس يلتقي أحبار الكنيسة في دير السريان (صور)    «يأتي حاملًا البهجة والأمل».. انتصار السيسي تهنئ الشعب المصري ب«شم النسيم»    جامعة أسيوط تنظيم أول مسابقة للتحكيم الصوري باللغة الإنجليزية على مستوى جامعات الصعيد (AUMT) 2024    المجمعات الاستهلاكية تستقبل الجمهور خلال عطلة شم النسيم    أسعار أراضي الإسكان الأكثر تميزًا بالمدن الجديدة.. تعرف على الشروط ورابط التقديم    التقديم غدًا.. 14 شرطًا لتلقي طلبات التصالح في قنا    «التنمية المحلية»: مبادرة «صوتك مسموع» تلقت 798 ألف شكوى منذ انطلاقها    إطلاق المنظومة الإلكترونية لطلبات التصالح في مخالفات البناء.. غدًا    تراجع كبير في أسعار الحديد اليوم الاثنين 6-5-2024    مطار العريش الدولي يستقبل طائرة مساعدات إماراتية لصالح الفلسطينيين بغزة    فرنسا: أي تهجير قسري للمدنيين يمثل جريمة حرب    بمناسبة عيد ميلاده.. كوريا الشمالية تدعم الزعيم كيم جونج أون بقسم الولاء    الجونة يستعيد خدمات أحمد حسام في لقاء فاركو    القناة الناقلة لمباراة باريس سان جيرمان ضد بوروسيا دورتموند في نصف نهائي دوري أبطال أوروبا    استياء في الزمالك بعد المشاركة الأولى للصفقة الجديدة    «الرياضة» تستعد لإطلاق 7 معسكرات شبابية جديدة في مختلف أنحاء الجمهورية    طارق العشرى يُخطط لمفاجأة الأهلي في مواجهة الثلاثاء    بالفيديو| أطفال يحوّلون النافورات إلى حمامات سباحة في احتفالية عيد شم النسيم    «الداخلية»: 4 متهمين وراء مقتل «مسن الوادي الجديد» بسبب خلافات مالية    إقبال كبير على كورنيش النيل للاحتفال بشم النسيم في الأقصر (صور)    فنانون عادوا للساحة الفنية بعد غياب سنوات.. آخرهم يوري مرقدي    إيرادات علي ربيع تتراجع في دور العرض.. تعرف على إيرادات فيلم ع الماشي    لماذا يتناول المصريون السمك المملح والبصل في شم النسيم؟.. أسباب أحدها عقائدي    في ذكرى ميلادها.. محطات فنية بحياة ماجدة الصباحي (فيديو)    رانيا محمود ياسين تُعلن وفاة عمها    وسيم السيسي: قصة انشقاق البحر الأحمر المنسوبة لسيدنا موسى غير صحيحة    معهد أمراض العيون: استقبال أكثر من 31 ألف مريض وإجراء 7955 عملية خلال 2023    استشاري تغذية توجّه نصائح لتفادي خطر الأسماك المملحة    بالأطعمة والمشروبات.. طريقة علاج عسر الهضم في شم النسيم    «الدواء» تقدّم 7 نصائح قبل تناول الفسيخ والرنجة    قبل أولمبياد باريس.. زياد السيسي يتوج بذهبية الجائزة الكبرى ل السلاح    التعليم تختتم بطولة الجمهورية للمدارس للألعاب الجماعية    الاتحاد الأوروبي يعتزم إنهاء إجراءاته ضد بولندا منذ عام 2017    التعليم العالي: تحديث النظام الإلكتروني لترقية أعضاء هيئة التدريس    استشاري تغذية ينصح بتناول الفسيخ والرنجة لهذه الأسباب    موعد عيد الأضحى لعام 2024: تحديدات الفلك والأهمية الدينية    إصابة أب ونجله في مشاجرة بالشرقية    فنان العرب في أزمة.. قصة إصابة محمد عبده بمرض السرطان وتلقيه العلاج بفرنسا    كشف ملابسات وفاة سيدة إثر حادث تصادم بسيارة وتحديد وضبط مرتكب الواقعة    مفاجأة عاجلة.. الأهلي يتفق مع النجم التونسي على الرحيل بنهاية الموسم الجاري    إزالة 9 حالات تعد على الأراضي الزراعية بمركز سمسطا في بني سويف    فشل في حمايتنا.. متظاهر يطالب باستقالة نتنياهو خلال مراسم إكليل المحرقة| فيديو    مقتل 6 أشخاص في هجوم بطائرة مسيرة أوكرانية على منطقة بيلجورود الروسية    ولو بكلمة أو نظرة.. الإفتاء: السخرية من الغير والإيذاء محرّم شرعًا    تعرف على أسعار البيض اليوم الاثنين بشم النسيم (موقع رسمي)    هل يجوز قراءة القرآن وترديد الأذكار وأنا نائم أو متكئ    الدخول ب5 جنيه.. استعدادات حديقة الأسماك لاستقبال المواطنين في يوم شم النسيم    أول تعليق من الأزهر على تشكيل مؤسسة تكوين الفكر العربي    مفاضلة بين زيزو وعاشور وعبد المنعم.. من ينضم في القائمة النهائية للأولمبياد من الثلاثي؟    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الاثنين 6-5-2024    قصر في الجنة لمن واظب على النوافل.. اعرف شروط الحصول على هذا الجزاء العظيم    وزيرة الهجرة: نستعد لإطلاق صندوق الطوارئ للمصريين بالخارج    دقة 50 ميجابيكسل.. فيفو تطلق هاتفها الذكي iQOO Z9 Turbo الجديد    مع قرب اجتياحها.. الاحتلال الإسرائيلي ينشر خريطة إخلاء أحياء رفح    البحوث الفلكية تكشف موعد غرة شهر ذي القعدة    تعاون مثمر في مجال المياه الإثنين بين مصر والسودان    استشهاد طفلان وسيدتان جراء قصف إسرائيلي استهدف منزلًا في حي الجنينة شرق رفح    الجمهور يغني أغنية "عمري معاك" مع أنغام خلال حفلها بدبي (صور)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشافعى..أحرق قديمه ليشيّد جديده!
نشر في الأهرام اليومي يوم 12 - 06 - 2015

بالله عليكم هل رأيتم فى زماننا أو فى الزمان الغابر عالماً تشكلت من أجله وتعانقت حروف صفة الشجاعة، وميزة قولة الحق، وفضيلة الاعتراف بالخطأ، وتفرد تصويب المسار، وريادة معركة التجديد والتغيير وسط الأمواج المتلاطمة.. إنه الإمام الشافعى الذى أحرق قديمه ليكتب جديده.. الذى ما أن قام بمراجعة كل ما كتبه على مدى ثلاثين عاما قبل وصوله للقاهرة واطلاعه على ما أنتجته المدرسة المصرية من التزاوج الفكرى بين الإسلام ومعطيات الحضارات التى تشكل الوجدان، ثم الفهم العميق لروح الشريعة الإسلامية، ما أن رأى الشافعى هذه العناصر الجديدة من الرأى والفكر والحضارة فى مصر، وما قدمه الإمام الليث سيد الفقهاء فى الفقه حتى بدأ يعيد النظر فى كثير من آرائه بل أعلن للناس أن آراءه ليست إلاّ التى كتبها فى مصر، الأرض البراح، أما كُتبه السابقة فلا يحق لأحد أن ينسبها إليه بل أمر بإحراقها وأعاد فى نحو خمسة أعوام كتابة ما ألفه فى ثلاثين عاما وزاد عليها كتباً أملاها حتى بلغ مجموع كلماته على أرض الكنانة آلاف الصفحات جمعها فى كتبه «الأم» و«الجزية» و«الرسالة» و«علم أصول الفقه».. وجهد جهدًا شديدًا فى هذا العمل حتى روى عنه أهله: ربما قدمنا له المصباح فى ليلة واحدة ثلاثين مرة أو يزيد، بينما كان الشافعى يستلقى ويتذكر وينادى: هلموا مصباحا، فنقدمه ويكتب ويكتب وينقح ويوضح ويصحح، ثم يبعده ويعود فيطلبه وهكذا.. ويُسأل: لماذا لا تُبقى المصباح فقد أجهدت أهلك، فيقول: «الظلمة أجلى للفكر»، فقد كان لا يُحسن التأمل إلا فى السكون والظلمة.. فى مصر اتسعت الرؤية وتغذى الوجدان بالرأى والفكر والحضارة مع رفض التعصب الذى ذهب إلى الشطط إلى حد أن البعض كان يتبرك بملابس الإمام مالك التى أخذها منه أحد تلاميذه، وإذا ما دهمهم الجفاف وتأخر المطر صلّوا صلاة الاستسقاء مستغيثين بقلنسوه الإمام مالك، فقام الشافعى بتأليف كتاب فيما اختلف فيه مع مالك ولكنه استحيا أن يصدره، وهو الذى جلس إليه يوما تلميذاً، وأبقى الكتاب عاماً ينظر فيه ويعدل من سطوره، ثم أصدره، وعندما عوتب فى ذلك جاء رده مشبعاً بعلوم الحضارات: «إن أرسطو تعلم الحكمة من أفلاطون، ثم خالفه قائلا إن أفلاطون صديقى والحق صديقى فإذا تنازعنا فالحق أولى بالصداقة».
وكأنها النظرية المقدسة فى حياة المفكرين والعلماء والفنانين والقادة التى يبرز فيها دور الأم الواعية فى دفع الأبناء إلى محطات الوصول المستنيرة حيث المستقبل مع العلياء والمجد.. وها هى الأم «حباب» حفيدة أخت السيدة فاطمة أم الإمام علىّ بن أبى طالب كرم الله وجهه محبة العلم حافظة القرآن وأنساب العرب وأشعارهم تنتقل إلى مكة ومعها وليدها «محمد» الذى أنجبته فى غزة وذلك بعد وفاة والده تاجر العطور والشيلان الدمشقية وغلق محله، حتى لا يضيع نسبه الشريف الممتد لآل البيت فى قريش.. حملت الأم الأزدية صغيرها وأقامت بجوار المسجد الحرام لتقوم بغزل الصوف كمورد للعيش حتى لا تحيا مع ابنها عالة على أحد من قبيلتها، لترسله لحفظ القرآن فى كتّاب مكة على يد شيخه إسماعيل بن قسطنطين حيث أتم حفظ المصحف وهو فى السابعة، و«الموطأ» وهو ابن العاشرة، وكان يدوّن جميع ما يستوعبه فوق قطع العظام، فيقول: «كنت يتيما فى حجر أمى، ولم يكن معها ما تعطى المعلم لكنه رضى عنى عندما خلفته وأجدت مع صبيان الكتّاب إذا قام، فلما حفظت القرآن دخلت المسجد لأجالس العلماء فأحفظ الحديث لأكتبه فى العظم، وكانت لنا جرّة عظيمة إذا امتلأ العظم بالسطور طرحته فى الجرّة».. الشافعي.. الصوت العذب فى الترتيل، والمغموس بالحزن والخشوع، مع إيقاع تزكيه خشية ورهبة العابد اللائذ المتبتل المستغفر اللاجئ لعظمة الخالق، ما أن ينساب صوته بالآيات البينّات حتى يرتفع نشيج البكاء من حوله ليغدو بين الجمع مدرار دموع.. فأمسك عن التلاوة إشفاقاً ليلتزم بحلقات التفسير حيث اصطدم بلسان المسلمين الجدد الموالى غير العرب الذين لا يتقنون العربية فشعر بحاجته الملحّة إلى زاد لغوى كبير يطلعه على تفهم أعمق لمعانى الكلمات وأسرار التراكيب اللغوية، وتلك كانت نصيحة الإمام الليث بن سعد عندما كان يقدم من مصر للحج، فيحث مستمعيه على الخروج للبادية وحفظ أشعار الهزليين.. فخرج الفتى إلى البادية القريبة ليعيش حتى عامه العشرين فى مضارب خيامهم يرحل برحيلهم ويحفظ أشعارهم وتراكيبهم اللغوية، ويتعلم منهم الرماية والفروسية، وعاد ليجالس حلقات شيوخه فى المسجد الحرام، وتبعاً لنصيحة الأم الفطنة التى يروى عن ذكائها أنها شهدت عند قاضى مكى هى وأخرى مع رجل فردت القاضى الذى أراد أن يفرق بين المرأتين قائلة له: «ليس لك ذلك لأن الله سبحانه وتعالى يقول: (أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخري) فرجع القاضى عن موقفه أمام المرأة البصيرة بأحكام الشريعة يتلمس التعلم على يد الإمام مالك بن أنس أمير المدينة مستعداً بحفظ كتاب «الموطأ» الذى ألفه مالك وقام بقراءة بعضه أمامه فاستحسنه ودعاه لضيافته ليظل ملازما له لحين وفاته عام 179ه لم يتركه إلاّ ليزور أمه بمكة أو للقيام برحلة لإحدى عواصم العلم والفقه، وكان يستأذن شيخه الذى يجهزه بالزاد والمال والدعاء، ليعود من أسفاره مؤمناً بأن العقل وحده هو أداة فهم النصوص لا الاتباع ولا التقليد.. وتعلم من تلاميذ جعفر الصادق بأن العلم ليس بحفظ القرآن والحديث ومعرفة الآثار فحسب، لكنه يشمل كل العلوم الطبيعية والرياضية التى تفسر ظواهر الكون، وتكشف قدرة الخالق، ومن هنا حرص الشافعى على تعلم الكيمياء والطب والفيزياء والحساب والفلك والتنجيم، بل وعلم الفراسة الذى مارسه بجدارة، وعندما أراد الشافعى الارتحال إلى الكوفة شجعه مالك بقوله: «إن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع».. وتَعَجَّبَ الشافعى من أن يقوم شيخه مالك بتكاليف الرحلة ولم يكن معهما شيء بالأمس القريب، فأجابه بأنه تلقى بعد صلاة العشاء صُرة هدية من الإمام الليث فقام بقسمتها بينهما، وخرج الشافعى من المدينة إلى الكوفة شاباً فى الثانية والعشرين ليعود منها ومعه من الكتب حِمل بعير ليروى لمالك الكثير حتى فى علم الفراسة التى كان فى نفس مالك شيء منها..
استقر الشافعى بالمدينة يقاوم التعصب المذهبى حتى رحل مالك بينما صاحبنا لم يزل فى التاسعة والعشرين فيعود إلى أمه بمكة مودعاً المدينة من خلال سطور دموعه، ويتوسط له الأقارب للعمل فى اليمن، حيث رهنت أمه دارها بمكة لرفقته فى رسالتها المقدسة لرعايته، وفى نجران باليمن عاود دراسة علوم الفراسة التى كانت مزدهرة هناك حتى تفوق فيها، واستشعر هناك بظلم حاكم نجران للناس فاعتلى المنبر فى الجامع يحض الأهالى على مقاومته فوشى به لدى الخليفة هارون الرشيد بتهمة التشيع والثورة عليه فأتى بالمتهمين يجرون الأصفاد وعددهم تسعة ليأمر بقطع رءوسهم، أما العاشر وهو الشافعى فهتف بقوله: السلام عليك يا أمير المؤمنين وبركاته، ولم يقل ورحمة الله، فأجابه الرشيد: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، لقد بدأت بسنة لم تؤمر بإقامتها ورددنا عليك بفريضة قامت بذاتها، ومن العجب أن تتكلم فى مجلسى بغير أمرى!! فقال الشافعي: إن الله تعالى قال فى كتابه العزيز «وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم فى الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذى ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً» وهو الذى إذا وعد وفى، فقد مكنك فى أرضه وامننى بعد خوفى حيث رددت عليّ السلام بقولك «وعليك رحمة الله» إذن فقد شملتنى رحمة الله بفضلك يا أمير المؤمنين.. وقال الله تعالى «يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا».. ولما كان القاضى الجالس بجوار الرشيد من استضاف الشافعى فى الكوفة من قبل فقد شهدَ فى صالح الشافعى الذى نجا بعدما عقد الرشيد له مجلساً من أهل العلم لامتحانه فى الفقه والرياضيات والطبيعة والكيمياء والطب والفلك والتنجيم والفراسة ليصفق له جميع الحاضرين إعجاباً ويمنحه الرشيد خمسين ألف دينار ويعرض عليه منصب القضاء فى أى مكان يريد، أو يجعله والياً على أى قطر يختار لكن الشافعى استأذن فى أن يعود إلى مكة للعيش بين أهله من قريش متفرغا للعلم وذلك بعدما أثرى الحياة الفكرية فى بغداد ثراء عظيما بمحاوراته مع محمد بن الحسن.. وعاد الشافعى من جديد إلى أم القرى ليتخذ مجلساً للفتوى والتدريس فى فناء بئر زمزم بجوار مقام إبراهيم الخليل وقد أصبح يملك من عطايا هارون الرشيد ما يسمح له بالتفرغ الكامل للعلم ليأتى إلى مجلسه يوماً ابن حنبل فيعجب به ليقول لصاحب له عن الشافعى: «اقتبس من هذا الرجل فإنه ما رأت عيناى مثله، فإن فاتنا فلن نعوضه أبدًا،وعندما مرض الإمام ابن حنبل قام الشافعى بزيارته فما أن رآه حتى نزل من على سريره وأجلسه مكانه ليجلس هو على الأرض، وعند انصرافه اركبه ابن حنبل دابته، ومشى تحت ركابه وهو المريض حتى أوصله إلى بيته، وكان الشافعى قد وضع كتابا أسماه (الرسالة) فى أصول الفقه فسافر إلى العراق ليعرض كتاب علمه الجديد على الشيوخ هناك ويناظرهم فيه وكان قد جاوز الخامسة والأربعين فاحتفت به بغداد وتمنى تلميذه أحمد بن حنبل أن يطيل الإقامة سنوات ليؤسس فى بغداد مدرسة فقهية جديدة.. لكن بغداد لم تعد التى أحبها، فقد مات خير الأصدقاء وذهب الرشيد واختلف أولاده، وما كاد الأمين يستقر على العرش حتى وثب عليه أخوه المأمون وقتله وركب مقعده، ولم تزل أصداء آهات نكبة البرامكة الذين أطاح بهم الرشيد يرددها الهواء، وارتفع الجدل العقيم فى سماء العقيدة فى المناقشة حول خلق القرآن، وزحفت الجرأة على الشريعة، وارتفعت دعوة للزهد فيما أحله الله ليزداد الأثرياء ثراء.. لم تعد بغداد مدينته ولا أُنس فى صحبة ولا جمال فى رفقة اللهم إلا مع أحمد بن حنبل وحده، ويعرض المأمون عليه منصب قاضى القضاة فيعتذر عنه فقد قرر فى نفسه أن يقسم وقته ما بين الفقه والشِعر.. ويتلقى دعوة من والى مصر الجديد لزيارتها.. دعوة انتظرها من البلد الوحيد الذى عرف عقيدة التوحيد قبل الديانات السماوية.. بلد عاشَ على أديمها النبى يعقوب، وخليل الله إبراهيم، ويوسف والأسباط كما ولد فيها موسى وعلى أرضها كلمه الله، وحفظت للمسيح عليه السلام وأمه مريم حياتهما من بطش الروم الوثنيين.. بلد تَرَنَّمَ الشافعى فيه شعرا قبل أن يطأ عتبته:
لقد أصبحت نفسى تتوق إلى مصر..
ومن دونها أرض المهامة والقفر
والله ما أدرى للفوز والغنى..
أساق إليها أم أساق إلى القبر
ويستقبله على أبواب الفسطاط عدد كبير من الفقهاء ورجال الدولة ويدعوه الوالى إلى منزل كبير أُعد له لكن الشافعى يؤثر الإقامة لدى أقارب أمه أسوة بالرسول صلى الله عليه وسلم حين هاجر إلى يثرب فنزل لدى أخواله، ويغدو جامع عمرو «تاج الجوامع» مجلسه للتعليم والإفتاء بعدما وجده يعج بحلقات المعارف والقصص واللغة والشعر وسائر فنون الفكر وهو الذى كان يقول حسرة:
ولولا الشعر بالعلماء يزري لكنت الآن أشعر من لبيد!
ومن الجديد الذى راقه فى مجلسه الجديد تبعا للمدرسة المصرية التى تعلم فيها فلاسفة الإغريق وأخذوا منها أسلوبهم فى المحاورات أن الأستاذ لا يلقى الدرس على طلاب ينصتون وكأن على رءوسهم الطير كما ألف من قبل خاصة فى حلقات الإمام مالك، ولكن ما أن يبدأ الأستاذ درسه حتى يدير على الفور حوارا مع تلاميذه لتتفجر القضايا وتنضج الآراء، وعند ملاحظته أن الحياة الفقهية يتنازعها تياران هما أنصار الإمام مالك، وأنصار الإمام أبى حنيفة والغلبة على الدوام لأنصار مالك المشتطين قال للحضور إن الإمام مالك بشر يخطئ ويصيب فانتفض أحد المتعصبين واسمه ِفتيان بن أبى سمح» ليقوم بسبابه بكلمات بذيئة خاصة بعدما دخل فى مناظرة حول قضية العبد المرهون إذا ما اعتقه الراهن ولا ملك له غيره، وكان الشافعى يقول «يباع»، بينما رأى فتيان المناظر له أنه لا يباع.. فيحمل الحاضرون ذلك السفيه يلقون به خارج المجلس والشافعى مستمر فى حديثه وكأنه لم يلحظ كل ما جري، بل إنه طلب من تلامذته بعدها الصفح عن ذلك السفيه لكن أصحابه ذهبوا يشكون للوالى وشهد الشهود فزمجر الوالى قائلا: «والله لو شهد الشافعى على فتيان هذا لقطعت رأسه»، أمر بضرب فتيان بالسوط والطواف به مقلوبا على جمل وقد حلقت رأسه ولحيته وشاربه ومن أمامه المنادى ينادى: «هذا جزاء من سب آل رسول الله صلى الله عليه وسلم».. ولم يسعد الإمام بما حدث بل عاد مهموما وقد ازداد نزيفه، وما أن خرج للجامع بعد استرداده بعضا من عافيته للجلوس فى حلقته حتى تربص به من على بعد سفهاء من أصحاب فتيان، وعندما خلت الحلقة وانفض الجمع من الجامع وبقى الإمام وحده حتى انقض عليه الوحوش بالهراوات ليسقط مجندلا فيولوا هاربين، ليحمل الإمام الغائب عن الوعى إلى منزله وما أن يسترد أنفاسه حتى يرسل غلامه إلى السيدة نفيسة يسألها كعادته الدعاء كلما ألم به مكروه فقالت لرسوله: «أحسن الله لقاءه ومتعه بالنظر إليه» فعلم الشافعى أنها النهاية، ولم يمض العام حتى مات «فتيان» في سنة 205ه.
الشافعي.. من لم يكن قاضياً أبدًا فى مصر لكننا فى مصرنا نطلق عليه لقب «قاضى الشريعة» الذى ذهبت أبحث عن سماته وأوصافه فى بطون المراجع والكتب فوجدته فى وصفه الوحيد عند قدومه إلى مصر عام 199ه وهو يخطو إلى الخمسين فارسا طويلا ممشوق القوام ضاحك السن بشوشاً أسمر البشرة، مهذب اللحية المصبوغة بالحناء اتباعاً للسنة، ثيابه خشنة نظيفة، متكئا على عصا غليظة وكأنه الناسك الجوال سألوه عن حرصه على إمساكها وليس الضعيف، فقال لأذكر أنى مسافر فى الدنيا.. رخيم الصوت، يشع حباً ومودة من عينين بالغتى الصفاء رغم آثار السهر وطول الفكر وآلام البواسير المرض المزمن الطويل بآثاره الدموية المدمرة التى يزيدها الجلوس الطويل غلوا ووحشية، وهو الذى رحب بجلسته فى مصر بين مريديه فى الجامع الأموى التى يمد فيها ساقيه للإمام فيخفف الوضع من غلواء الألم.. وجدته فى العشرين زوجا ل«عمرة» التى أنجبت له من الأبناء ثلاثة محمد (أبو عثمان) وفاطمة وزينب وكان له من جاريته «دنانير» الابن الرابع محمد أبو الحسن الذى قدم مع أبيه إلى مصر صغيراً.. الشافعي.. قالوا عن علمه سجعاً فى كتب التراث: «جمع أشتات الفضائل، ونظم أفراد المناقب، وبلغ فى الدين والعلم أعلى المراتب، إن ذكر التفسير فهو إمامه، أو الفقه ففى يديه زمامه، أو الحديث فله نقضه وإبرامه، أو الأصول فله فيه الفصوص والفصول، أو الأدب فهو مبديه ومعيده، ومعطيه ومفيده، وجهه للصباحه ويده للسماحة ورأيه للرجاحة ولسانه للفصاحة، إمام الأئمة، ومفتى الأمة، والمصباح الزاهر فى الظلمة.. فى التفسير ابن عباس، وفى الحديث ابن عمر، وفى الفقه معاذ، وفى القضاء عليّ، وفى الفرائض زيد، وفى الشعر حسان، وفى كلامه بين الحق والباطل فرقان..
الشافعى.. كثير العبادة يختم القرآن فى رمضان ستين مرة..
الشافعى.. القائل: أفلست فى عمرى ثلاثاً فكنت أبيع قليلى وكثيرى حتى حُلى ابنتى وزوجتى ولم أرهن قط..
الشافعى.. محب الطرائف والملح الذى كان يحكى لمجلسه طرائف مما شاهده فى رحلاته الطويلة منها أنه رأى فى المدينة أربع عجائب لم يرها فى غيرها: جدة عمرها إحدى وعشرون سنة!! وقاضيا حكم بإفلاس تاجر فى دين قيمته أربعة أرطال من نوى البلح!! وشيخا فى التسعين يدور حافيا يعلم القيان الرقص والغناء، فإذا ما جاءت الصلاة صلى قاعدا!! ووالياً كان صالحا طيبا فقال: مالى لا أرى الناس يجتمعون على بابى كأبواب الولاة؟ فقالوا له: لأنك لا تؤذى الناس، فقال: عليّ بإمام المسجد، فأحضروه له فجعل يضربه والإمام يصرخ حتى اجتمع الناس، فسرى على الوالى وطابت نفسه فقد اجتمع الناس على بابه.. الشافعي.. الذى زار قبر الإمام أبى حنيفة وصلى ركعتين، ولاحظ مرافقوه أنه عدل عن قواعده فى حركات الصلاة إلى قواعد أبى حنيفة، فلما سألوه فى ذلك قال: «أدبا من الإمام أبى حنيفة أن أخالفه فى حضرته»..
الشافعي.. الذى يرى أن الحاكم واجب الطاعة مادام الناس قد اختاروه باختيار حر وبيعة لا إكراه فيها ولا زيف..
الشافعي.. القائل عن طعامه: «الشبع يثقل البدن ويقسى القلب ويزيل الفطنة ويجلب النوم ويصرف صاحبه عن العبادة»..
الشافعى الذى قال: أقمت أربعين سنة اسأل إخوانى الذين تزوجوا عن أحوالهم فى تزوجهم، فما منهم أحد قال: إنه رأى خيرًا.
الشافعى الذى رحل فى الرابعة والخمسين فى ليلة الجمعة 28 من رجب 204ه وتوجهت جنازته تبعاً لوصيته إلى منزل السيدة نفيسة التى صلت عليه قائلة: «كان رجلا يحسن الوضوء»..
الشافعي.. الذى بقيت منزلته رفيعة القدر فى نفوس المصريين خاصة فى الوجه البحرى..
الشافعى الذى اشتعل الرأس فيه شعرا قاله فى جميع المجالات:
• لئن كان ذنبى حب ال محمد
فذلك ذنب لست عنه أتوب
• ومن البلية أن تحب ولا يحبك من تحبه
• الشمس لو وقفت فى الفلك دائمة..
لمّلها الناس من عُجم ومن عَرب
والبدر لولا أفول منه ما نظرت..
إليه فى كل حين عين مرتقب
• كل العداوات قد ترجى إماتتها
إلاّ عداوة من عاداك بالحسد
• أما ترى البحر تعلو فوقه جيف..
وتستقر بأقصى قاعه الدّرر
وفى السماء نجوم لا عداد لها..
وليس يُكسف إلا الشمس والقمر
• ولا تعطين الرأى من لا يريده..
فلا أنت محمود ولا الرأى نافِعهُ
• إذا ضاق صدر المرء عن سر نفسه..
فصدر الذى يُستودع السر أضيق
• ولولا العلم ما سعدت رجال..
ولا عُرف الحلال ولا الحرام
مهانة أردوغان
يوم يكرم المرء فيه أو يُهان قد أتى لنرى بعين الشماتة المحمودة وقمم الامتنان يوم مهانة أردوغان عندما اضطر من بعد خذلان حزبه العدالة والتنمية فى الانتخابات التركية الأخيرة أن يُدخل كاميرات الإعلام إلى حمام قصر الخلافة ليثبت أن سلطانية المرحاض مصنوعة من الخزف وليس من الذهب كما افترت عليه المعارضة التى وصفها بالشذوذ والإلحاد، وبعد هزيمته الساحقة قال عن أحزابها «أشقاء الديمقراطية»!! وما قصر الألف غرفة المنيف الذى بلغت تكاليفه أكثر من المليار من أموال دافعى الضرائب الأتراك الذين ارتفعت نسبة البطالة بينهم إلى 12٪ سوى ملجئا لرئيس الوزراء الغلبان والست مراته كمان من الحشرات والصراصير والهوام التى استفحل أمرها فى قرض أرضيات وحوائط المبنى القديم المتداعى، فكان ولابد من العزال.. ولسوف تمضى مهلة ال45 يوما عبثا بمشيئة الرحمن على تشكيل حكومة أقلية أو ائتلافية، فالفوضى السياسية والفساد قد تجذرا فى البلاد لتأتى الانتخابات الجديدة بعزيمة الأتراك المذلون المهانون ليقوموا فيها بطرد آخر فلول أردوغان صاحب اليد المبتورة بعلامة رابعة الآثمة التى رفعها غِلاًّ وعتهاً بعد تبدد حلم الخلافة فى جلسة خاصة عاجلة لمجلس الأمن يطالب العالم فيها بفرض عقوبات رادعة على مصر البلد المسلم الذى خرج عن بِكرة أبيه يذود عنه جيشه حامى حماه ليتطهر من حكم الشيطان برشها بأقوى مبيد حشرى حيث نرشح لهم فى هذا المجال التوكسافين الفعّال المصحوب بشخطه الزلزال: اطلع بررررررره!!
لمزيد من مقالات سناء البيسى


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.