لاشىء يأتي من فراغ أبدا. هذا ما أيقنته حين اقتربت من الأديب »أحمد جمال الدين موسى«. فحين أصدر روايته الأولى »فتاة هايدلبرج الأمريكية«. قلت من أين له هذا، وقد قضى عمره في الدراسة، فمنذ ابتعاثه لإنجاز الدكتوراه في باريس منتصف السبعينيات، لم يتوقف عن البحث العلمي، والتدريس، وازداد انشغاله بتوليه وزارة التعليم مرتين، قبل وبعد ثورة يناير. وأدهشتني روايته الثانية »لقاء في واحة الحنين«، وقررت استطلاع الحقيقة، فكيف لأستاذ بكلية الحقوق، متخصص في الاقتصاد والماليات، أن يكتب روايات بنفس احترافي، دون سابق خبرة، ومع اتساع الهُوَّة بين السياقين. وأطاحت الحقيقة بعلامات الاستفهام، فهو ابن منطقة السنبلاوين، التى جاء منها «أحمد لطفى السيد»، و«محمد حسين هيكل»، وقريب الأديب «أبوالمعاطى أبو النجا»، والأديب «أحمد صبرى أبو الفتوح»، وقرية الأديب الراحل «سليمان فيَّاض» ليست بعيدة عن قريته، وكذا «أنيس منصور». وجدَّه وعمه كانا أزهريين، وتركا له مكتبة عامرة، أغوته بالأدب من بداياته. قرض الشعر، وكتب القصة القصيرة، والمسرح فى عز تألق الحركة الطلابية فى بداية السبعينيات، ورغم انخطافه بعيدا لأكثر من ثلاثة عقود، لم يستطع التغلب على هاجس الإبداع النشط بوجدانه، الذى اشتعل أكثر حين كتب روايته الأولى، وتأجج مع الثانية، لنجد أمامنا أديبا ظلم موهبته طويلا، واستجابته المتأخرة لها كانت سبب قولنا: «لاشىء يأتى من فراغ أبدا». روايتك الأخيرة «لقاء فى واحة الحنين» تتناول الحركة الطلابية النشطة منذ نهاية الستينات وبداية السبعينيات، بتجلياتها المختلفة، عبر سبع شخصيات ممن شاركوا فى صناعة أحداثها الشهيرة فى جامعتى القاهرة وعين شمس، فهل هو نوع من الحنين الشخصي، كونك عشت تلك الفترة فى الجامعة، أم محاولة لتسليط الضوء أكثر على وقائع مهمة فى تاريخنا، وترى أنها لم تأخذ حقها كما ينبغي، أو لسبب آخر؟ كلا الدافعين كان حاضراً حين بدأت الكتابة، فمشاركتى فى الحركة الطلابية أوائل 1972 كانت حدثاً مهماً فى حياتي، لأننى وجدتنى أتخلى عن قرارى الذى اتخذته بإصرار بعد نكسة 1967 بالابتعاد عن السياسة، وكنت قبلها طالباً قياديا نشطاً فى منظمة الشباب ولم يتعد عمرى السادسة عشرة. لقد شاركت بحماس فى ندوات وفاعليات الحركة الطلابية وكنت عضو اللجنة الوطنية لكلية الحقوق، واعتقلت مع زملائى فى قاعة الاحتفالات فجر 24 يناير 1972. وقد كتبت يومياتى وانطباعاتى عن تلك الأحداث وأعطيتها لبعض الأصدقاء، وتداولوها مع عدد من كبار المثقفين فى العاصمة، لكنها لم ترجع إليّ مرة ثانية، وحزنت جدا لفقدانها، ولعل الرجوع لتلك الأحداث فى شكل روائى كان هاجساً كامناً على مدى كل تلك السنوات. يضاف إلى ذلك أننى أعتقد أن نضال الشعوب حلقات متعاقبة، لذلك لا يمكن استبعاد تأثير قيام ثورة 25 يناير على توجهى الباطن لربط وقائع الرواية بأحداث الحركة الطلابية فى السبعينيات. السياسة موضوعك الأساسى فى روايتك هذه، وروايتك السابقة «فتاة هايدلبرج الأمريكية»، فهل هذا لأنك عملت وزيرا للتعليم فترتين، أم لأنك من جيل تفتح وعْيُه على أحداث سياسية كبرى مثل النكسة، وانتصار أكتوبر، وغير ذلك، أم أن الرواية هى التى تختار موضوعها من دون تدخل الأديب؟ فعلا هناك مسحة سياسية واضحة فى الروايتين، لكنى لم أختر ذلك عمداً، ربما حياتنا الشخصية وتجاربنا الحياتية تعكس نفسها فى أفكارنا وأعمالنا الأدبية و العلمية أيضا، فرسالتى للدكتوراه فى فرنسا كان موضوعها الدولة والظلم الاجتماعي، ومعظم أبحاثى تربط الاقتصاد بالسياسة, مثل التحليل الاقتصادى للانتخابات أو التحليل الاقتصادى للبيروقراطية أو الخصخصة أو النفقات الحربية والصناعات العسكرية ومدى انعكاسهما على قضية التنمية. وأنت محق فى أن جيلنا عاش أحداثا سياسية جساما استغرقت وعيه وتملكت أحاسيسه بأكثر مما نجده لدى الشعوب أو الأجيال الأخرى. لكن فى اعتقادى يجب ألا تطغى السياسة على الأدب وألا يفقد المبدع موضوعيته وكفاءته الفنية بسبب حماسه السياسي. شخصيات «لقاء فى واحة الحنين» تنتمى لتيارات سياسية متباينة، ناصرية وشيوعية وإسلامية، لكن أكثريتهم فى حياتهم العملية بدوا على درجة واضحة من الانتهازية، ومهمومين بمصالحهم الشخصية، أكثر من الوطن والشعب، فهل هذا واقع الحال ، ولماذا الحنين لأناس غلبتهم أهواؤهم؟. شخصيات الرواية تنتمى لتوجهات متباينة، لكنهم ليسوا جميعاً انتهازيين.. فبعضهم ظل صادقاً مع نفسه رغم توالى صعوبات الحياة وتصاريف القدر مثل إبراهيم مروان وطارق جاد وليلى عامر وسناء طاحون، والبعض الآخر مر عبر الزمن بتحولات كبيرة أو صغيرة فى قناعاته مثل كامل هلال وسعد رمضان، ولا أظن أنه من العدل أن نصم من يغير أفكاره أو يطورها فى ضوء الأحداث المتقلبة والتجارب الجديدة وتقدم السن بالانتهازية.. وحتى بالنسبة لسليم البطراوى الذى يصفه أقرانه بأنه انتهازي، أحياناً يراجع نفسه فيما يفعله، وإن غلبته فى النهاية شخصيته الجامحة. هل هى بتقديرك مجرد حكايات مشوقة ودرامية من نضالات الحركة الطلابية، حدثت وانتهت،وإن امتلأ بها الوجدان الفردى والعام لفترة، أم ستظل جزءا مهما من ملامح وأحلام أمَّتنا، أم تراها جزءا من توق الشعوب الطبيعى للديمقراطية والحريات السياسية، وليس شيئا خاصاً بنا؟. هى ليست حكايات من نضالات الحركة الطلابية، فذلك آخر ما يمكننى التفكير فيه، فالحركة الطلابية ليست سوى الرابط بين هذه الشخصيات التى انطلقت بعدها فى مسيرة الحياة بنجاحاتها وتعثراتها على المستويين الشخصى والوطني، ليلتقى الجميع مرة أخرى بعد أربعين سنة ليشاهدوا أنفسهم ويراجعوا حياتهم من منظور مختلف، وكذلك كان الوطن بعد 25 يناير 2011. الحركة الطلابية مثل ثورة يناير، وغيرها من الثورات، عبارة عن حلقات متصلة من سعى الشعوب نحو حياة أفضل وعالم أكثر عدلاً وإنسانية. جمع قيادات الحركة الطلابية فى السبعينيات للاحتفال جاء بحُجة مرور 40 عاما على انتفاضتهم يوم 24 يناير عام 2012، بعد ثورة يناير بعام واحد، فهل الحركة الوطنية تيار متصل، أم فترات منبتة الصلة، وهل تظن أن الاسلاميين يؤمنون بما يسمى الحركة الوطنية، وتيار النضال الوطني؟ أعتقد أن النضال الوطنى حلقات متواصلة، لكنها لا تأخذ منحنى خطياً صاعداً، فقد تنتكس وتتراجع لكنها تواصل خطواتها لتحقيق الأهداف ذاتها، وهو ما حدث فى ثورتى 1919 و1952، وفى ثورتى 25 يناير و30 يونيو، أنا لست فى موضع القاضى الذى يحق له الحكم على الآخرين، لكنى أعتقد أن أنصار التيار الإسلامى السياسى مطالبون بمراجعة الكثير من المفاهيم والفرضيات التى تبنوها فى العقود السابقة، فالدين أسمى من أن يحتكره تيار سياسى مهما تكن الشعارات التى يرفعها والعباءة التى يرتديها، والوطن هو المظلة التى يجب أن تأوى جميع أبنائه حتى الشاردين منهم، فى ظل دولة القانون التى تحمى حقوق وواجبات الجميع. ثورة يناير وضعت شخصيات الرواية السبع (ليلى عامر، طارق جاد، سناء طاحون، سعد رمضان، إبراهيم مروان، سليم البطراوي، كامل هلال) أمام أنفسهم وتاريخهم، فبدت مواقفهم ورؤاهم مختلفة جذرياً، وكان اللقاء كاشفا لمواطن خلاف نسفت كل الأحلام، فهل تعتقد أن ثمَّة أملا فى التقاء القوى مجددا على صيغة ديمقراطية؟ أحداث اللقاء فى فندق واحة الحنين تبدو مفزعة وعنيفة بعض الشئ، مما دفع بعض النقاد لاعتبار ذلك اللقاء بمثابة إعلان إفلاس وطنى لجيل السبعينيات، ونظرتى للمسألة مختلفة بعض الشىء، فليس هناك جيل كله من الأبطال أو كله من الأوغاد، فما حدث فى قاعة الفندق كنا نراه على نحو أو آخر يومياً فى البرامج الحوارية على شاشات التليفزيون التى يشارك فيها مصريون من أجيال مختلفة، هناك بالتأكيد ظواهر سلبية تغلف حياتنا، وترتد بنا إلى أوضاع العجز والتدهور التى نشاهدها حولنا، ولعل الإعتراف بهذه الظواهر وكشف حقيقة دوافعها يكون بداية التخلص منها وتحقيق الإصلاح الذى نشرت فى يناير 2010 كتاباً عنه عنوانه «الإصلاح المؤسسى سبيل مصر إلى مستقبل أكثر إشراقا».. واعتقد أن لا مفر إن آجلاً أو عاجلاً من التقاء جميع القوى الوطنية المصرية لصياغة مستقبلنا.