سبعة عشر قتيلا سقطوا ضحية التناحر الثأري بين عائلة المخالفة وعائلة السحالوة في فرشوط، بخلاف عشرة أفراد أصيبوا بأعيرة نارية، تركت بعضهم في حكم الموتى، وبعضهم يعيشون بعاهات مستديمة، ومازال التناحر الثأري قائما، وسوف يتوالى سقوط القتلى في ظل صمت إعلامي غريب، و قصور في أداء مؤسسات الدولة المعنية، وعلى رأسها اللواء عبد الحميد الهجان محافظ قنا المسئول الأمني الأول، والذي يمكن أن يفعل شيئا لوقف سفك الدماء، لكنه لا يهتم. الوضع مأساوي في (مدينة !!!) فرشوط نتيجة المطاردات التي تحدث بين رجال العائلتين، وتُستخدم فيها البنادق الآلية بتهور، في الشوارع، ومن فوق أسطح البيوت، والأكمنة، وهي لا تصيب أطراف الخصومة فقط، بل أودت بحياة ثلاثة أشخاص من عائلات أخرى، وقد تمسكت تلك العائلات الأخرى مشكورة بضبط النفس، ورفضت التورط في الخصومة، لكن نطاق العنف يتسع، وإطلاق الرصاص لا يهدأ، ومدينة فرشوط تعيش حالة طويلة من القلق، يصل إلى الذعر في بعض الأيام، وهكذا لم تعد المدينة آمنة مطمئنة كما كانت بوصفها مدينة تجارية، بل صارت تشهدحالة من الخراب، فالناس يترقبون دوي الأعيرة النارية بشكل مفاجئ، والتناحر الثأري لا يستثني الشوارع الحيوية والمزدحمة مثل شارع السوق. ورجال العائلتين يتحركون حاملين البنادق الآلية ويمرون بشكل عادي جدا أمام قسم الشرطة نفسه، دون أن يكلمهم أحد. الخراب في فرشوط يظهر من خلال استباحة أطراف الخصومة لمؤسسات الدولة، ففي إحدى الوقائع تم دخول مدرسة ابتدائية من قبل مجموعة مسلحة للإمساك بأحد المدرسين، وتم قتله أمام أعين الأطفال، وفي موقعة أخرى تم القتل داخل مستشفى فرشوط العام، وغالبية الجناة في تلك الوقائع لم يتم ضبطهم، بل يعيشون حياتهم بشكل طبيعي تماما. الخراب في فرشوط يتسع أيضا مع رواج تجارة المخدرات بشكل غير مسبوق، هذا فضلا عن رواج تجارة الأسلحة، والأمران متداخلان. المشكلة بين العائلتين بدأت قبل عامين، وتدخَّل رجال المصالحات الثأرية، وكان من الممكن وأد الفتنة في مهدها، بعد سقوط قتيل من هنا وقتيل من هناك، لكن عائلة السحالوة شعرت بأن مكانتها جرحت، لأنها عائلة عريقة في المكان، فمنهم أعضاء مجلسي الشعب والشوري وفيهم ضباط ومستشارين، ويكفي أنهم عائلة وزير العدل الأسبق، ومنصب الوزير في الصعيد أمر نادر للغاية، ومن الطبيعي أن يترك فخرا لا حد له. عائلة المخالفة من ناحية أخرى، وإن خلت من الضباط والمستشارين وأعضاء مجلسي الشعب والشورى، إلا أنها تعتبر نفسها الأعرق في المكان، وتعتز بنسبها الجعفري، ويفخر أبناؤها بكونهم أحفاد بن مخلوف قاضي قضاة مصر في عصر الناصر بن قلاوون. هكذا يسيطر تفكير عفى عليه الزمن، ويعلي كل طرف من شأنه، ويخفض من مكانة الطرف الآخر، ويعتبر أنه الأولى بالخروج مرفوع الرأس، عن طريق سفك المزيد من الدماء، والمزيد من خراب مدينة فرشوط. وأشرف الأطراف في تقديرنا، هوى من يسعى من أجل العمران لا الخراب، من يضحي كي يوقف دوامة العنف، ويحافظ ولو على قطرة دم واحدة، والعمل على عودة الجوار الحميم والجميل الذي كان قائما بين العائلتين على مدار عقود طويلة. وفي العائلتين أفراد كثيرون لا يعجبهم الوضع ويتمنون التصالح الكريم، لكنهم يصمتون حرصا على تماسك العائلة، وعدم بث الشقاق في صفوفها. التناحر الثأري في فرشوط يشهد الآن فرصة ثمينة جدا، لو ضاعت سوف تتعقد الأمور كثيرا وسوف يتوالى سفك الدماء بضراوة أكبر، والفرصة ثمينة لأن مجال الخلاف ضاق كثيرا، فالمسألة تتعلق الآن بفرد واحد، فالمخالفة يتعصبون لقتيل يتهمون فيه السحالوة، والسحالوة يتبرأون من قتله، ومهما كانت الحقيقية إلا أن الأمر يمكن تجاوزه عن طريق الأعراف المتبعة. ولو قام أحد أفراد السحالوة الآن بتقديم القودة لأوقف سفك الدماء. الفرصة ثمينة بسبب وجود أحكام صدرت بإعدام عدد من أفراد المخالفة، وبراءة المتهمين من السحالوة، والمخالفة يحسبون المقتول إعداما على عائلة السحالوة، ويعدون أنفسهم لانتقام كبير يغذيه شعور عميق بعدم وجود ظهر لهم في السلطة، كما يغذيه بعض المجرمين الكبار من تجار الأسلحة، وبعض الوجوه التي تطمع في أصواتهم في انتخابات مجلس الشعب القادمة. وبغض النظر عن وجود مبررات عقلانية لمشاعر المخالفة من عدمه، إلا أن قناعاتهم بأفكارهم راسخة، وشديدة الصلابة، وإنهاء الموضوع قبل تنفيذ أحكام الإعدام ضرورة، لتجنب اتساع نطاق المجزرة، لماذا لا نتحرك إلا بعد فوات الأوان ؟ السعي إلى حلُّ الخصومة الآن أفضل بكثير جدا من السعي إلى حلها في وقت لاحق، فالفرصة ذهبية بالفعل، والحل موجود في إطار الأعراف المتبعة، وتوجد لجنة من قضاة الدم وافق عليها الطرفان منذ فترة لكن مسيرتها تعرقلت، وهي لجنة محترمة جدا، يرأسها الشيخ تقادم الإسناوي، وهو واحد من أبرز حكماء الصعيد، وأكثرهم نزاهة ، وهيبة، ومعه مجموعة ممتازة من الأجاويد مثل العمدة عبد الباسط حداد، والنائب الأسبق حمدي محمد حسين، وغيرهما،غير أن تلك المجموعة عاجزة عن الحل لسببين متداخلين، الأول غياب دعم المحافظ ومدير الأمن كما سنوضح، والآخر وجود كبار عائلة السحالوة في القاهرة، ومن ثم فالمفاوضات تتم مع أطراف لا يملكون القرار وبالتالي تظهر صعوبة المفاوضات، في نظر الكثيرين ومنهم المخالفة بالطبع، والذين يثأرون حتى في ذلك الأمر فيخبئون الكبار أحيانا ، ويدعون أن الشباب يتصرفون دون مشورتهم. من خلال متابعتي للخصومة وتداعياتها، تبين لي أن حل العقدة كما يراه الناس يتمثل في شخصيتين، يعلق الناس عليهما أملا كبيرا، وينتظران منهما خطوة إيجابية، لا توقف المجزرة فقط، ولكن تعيد الأمن لمدينة فرشوط بكاملها، وهما المستشار الراوي أبو سحلي، واللواء هارون أبو سحلي، لأنهما من أبرز كبار السحالوة، ويتسمان بالحكمة، والقدرة على الفعل، ويصعب على لجنة المصالحات التواصل معهما بشكل مباشر لعدم تواجدهما في فرشوط، وهنا يظهر دور اللواء عبد الحميد الهجان محافظ قنا، لأنه يملك القدرة على إجراء حوار مع الشخصيتين الكبيرتين، كما يملك القدرة على عقد اجتماع يجمع بينهما وبين أعضاء لجنة المصالحة، والتي تملك القدرة على التصرف بحكمة وتوضيح الصواب، وعمل كل ما يلزم لخروج الطرفين خروجا كريما، يرضى عنه المجتمع المحيط. لكن كيف يسمع محافظ قنا صوت الدماء التي تنزف في فرشوط، كيف يسمع صوت أطفال في مدرسة يصرخون وسط الرصاص، أو مرضى في مستشفى تقتلهم أعيرة طائشة، وما الذي سيقوله لنا عندما نستيقظ ذات صباح وشيك على مذبحة يستعد لها الطرفان بجدية؟ وقد تتدخل فيها عائلات أخرى، بعد أن ضجت البلدة كلها من طيش الطرفين، وتهورهما، والذي ألحق أضرارا كثيرة بآخرين ، مثل سقوط قتلى ومصابين لا ذنب لهم أو إتلاف ممتلكات مثل انفجار سيارة نتيجة تعرضها للقصف كما حدث بالفعل مع سيارة موظف في السنترال ،كانت واقفة أمام محل عمله. الحديث هنا، وإن كنا نوجهه لمحافظ قنا، إلا أنه موجه بالضرورة لكل الشرفاء، خاصة من رجال الإعلام والذين أدعوهم لتخصيص ساعة واحدة في القنوات لسماع شكاوى أهالي فرشوط،لا أطراف الخصومة، وهم يتحدثون عن مأساوية الوضع، والشعور بطرد الصعيد من رعاية الدولة، والتأكد من تضررهم وحزنهم على ما ألت إليه المدينة التجارية المسالمة، وصعوبة العيش فيها.