بعد خلع الرئيس السابق حسني مبارك في 11 فبراير من العام الماضي كان الكل يهتف بحياة الديمقراطية والجميع يحلم بتطبيقها فورا حتي وإن كانت الأغلبية لا تدرك معناها الدقيق لكن المفهوم الغالب كان يري فيها إمكانية اختيار رئيس الجمهورية من خلال انتخابات حرة ونزيهة بعد أن ظل الحكام يفرضون أنفسهم علي الشعب بالقوة طوال التاريخ. وعلينا أن نعترف بأن الأمور قد تغيرت كثيرا الآن وأصبح هناك رأي عام يشكك في جدوي الديمقراطية أو بمعني أدق في مدي ملاءمتها لمصر ولظروفها الحالية. وبدأ يترسخ في الوعي الجماعي أن الديمقراطية مجرد وهم أو يوطوبيا حسب تعبير الكاتب البريطاني توماس مور أي خيال جميل غير قابل للتطبيق, وأنها نظام يحتاج إلي شروط وظروف غير متوافرة في مصر حاليا بل وذهب البعض إلي أن الدول التي تدعي أنها ديمقراطية في الغرب تنتهج سياسات ظالمة تجاه بلدان العالم الثالث وتساند الظالم علي حساب المظلوم, كما يحدث في حالة إسرائيل والشعب الفلسطيني. وقد خيل للبعض أن الانفلات الأمني الذي يعاني منه الجميع منذ الثورة لا تنفع معه الديمقراطية ولا السياسات الإنسانية اللينة وأسرع البعض بالمطالبة بتعليق المشانق في الميادين للتخلص من البلطجية وقطاع الطريق وتطبيق حدود الحرابة وقطع الأيدي والرجم. ومن هذه المنطلقات بدأ الكثيرون يشيحون وجوههم عن الديمقراطية وأصبح البعض يطالب برئيس قوي الشكيمة يعيد للشارع المصري الأمن الغائب ويبطش بالبلطجية ويعيد للدولة هيبتها المفقودة. وقد سمعت من بعض ألد أعداء الزعيم الراحل عبد الناصر أن مصر في حاجة الآن إلي عبد الناصر جديد. وهم لا يقصدون بالطبع الزعيم الاشتراكي المؤمن بالعدالة الاجتماعية ولا رائد القومية العربية ولا قائد المواجهة مع أمريكا وإسرائيل لكنهم يقصدون جانبا واحدا من حكمه وهو قوة الشخصية وفرض إرادته والإمساك بزمام الأمور بيد من حديد. وقناعتي أن المأزق الحقيقي الذي وقعنا فيه بعد الثورة هو أن غالبية الأطراف الفاعلة علي الساحة السياسية في مصر لا تؤمن في قرارة نفسها بالديمقراطية مع أننا نجد في كل التصريحات العلنية أن الجميع مازال ينادي بها باللسان ويدعي التمسك بها والغيرة عليها. فالتيارات التي حصلت علي الأغلبية في البرلمان تتصور أن الشعب اختارها لتحكم باسم الله عز وجل وأن نجاحها في الانتخابات هو تفويض من السماء وليس من الشعب المصري. ويستحيل علي هذه التيارات أن تؤمن بالديمقراطية لأن أساس الديمقراطية هو تداول السلطة في حين أن جوهر قناعاتهم السياسية يقوم علي رفض تداول السلطة لأن ذلك عندهم هو الكفر بعينه حيث يفتح أبواب السلطة لمن لا يحكم بشريعة الله كما يرونها من وجهة نظرهم. الطرف الآخر الرئيسي في المعادلة السياسية هو المجلس العسكري الذي يقوم الآن بدور الحكم بين كل الأطراف ويمسك بزمام الأمور إلي أن تستقر الأوضاع ويأتي رئيس منتخب وتتم صياغة دستور جديد. لكن هل يؤمن أعضاؤه حقا بمباديء الديمقراطية؟ إن العسكري في كل مكان حتي في الدول الديمقراطية ينشأ علي ثقافة خاصة تؤهله للقتال والدفاع عن أرض الوطن وهذه الثقافة تقوم علي الطاعة وعدم الاعتراض علي القائد أو الرئيس أو من بيدهم الأمر, وهذا السلوك يتناقض مع الديمقراطية. والعسكريون في الدول الديمقراطية يخضعون بالتأكيد للنظام الديمقراطي لكن عقيدتهم العسكرية لا ترتاح كثيرا لها. لكن الأخطر من هذا وذاك أن نسبة متزايدة من المصريين مقتنعة بأن الثورة أفرزت مناخا من الفوضي والانفلات وتصاعد نسبة الجرائم وأنه ترتب علي حل وتفكيك جهاز مباحث أمن الدولة شعور عام بأنه لا توجد محاسبة ولا يوجد ردع للخارجين عن القانون فأتاح ذلك للبلطجية أن يعيثوا في الأرض فسادا وبالتالي فلا بديل عن وجود حاكم شديد البأس لا يستنكف إعادة الدولة البوليسية من أجل استتباب الأمن وعودة الانضباط للشارع المصري. وهناك نغمة تتردد منذ فترة بأن الديمقراطية لا تنفع الشعب المصري لأنه اعتاد علي أن يحكم بيد من فولاذ وبسلطة مركزية قوية تبطش بمن يخرج عن القانون كما اعتاد طوال تاريخه علي أن يخشي الشرطة ولا يخشي القانون وأن يخشي بطش السلطة ولا يخشي يد العدالة. وقد وصل الأمر بالبعض إلي أنهم يترحمون همسا علي ايام مبارك علي أساس أنه برغم الفساد والظلم فقد كان المواطن ينعم بالأمن في الشوارع والاماكن العامة. والغريب أن مبارك نفسه كان يردد في خطاباته الثلاثة التي ألقاها خلال الثورة أن الموقف صار يتلخص في الاختيار التالي: هو أو الفوضي.. وواضح أن السيناريو الذي توقعه مبارك أو سعي إلي وضعه هو الذي يحدث الآن بحذافيره. وهذه الثنائية الشيطانية هي التي صنعت شرعية كل الأنظمة الدكتاتورية التي تمنح الشعب عقدا غير مكتوب مؤداه أنها تحميه وفي مقابل تلك الحماية فإن عليه أن يصمت علي المظالم والفساد وجبروت الحاكم. بالتاكيد أن هناك من يسعي لإجهاض واحد من أروع الأحلام التي راودت الشعب المصري بعد الثورة وهو تحقيق الديمقراطية. وقناعتي أن الديمقراطية آتية لكنها سوف تحتاج إلي وقت أطول مما كنا نتصور. فالثورة ليست لحظة فارقة تقاس بالأيام ولا بالسنين بل هي عملية لها صفة الاستمرارية والدأب والعزيمة الصامدة علي تحقيق تغيير جذري في معادلة الحكم والعلاقة بين الحاكم والمحكوم. المزيد من مقالات شريف الشوباشي