اختار الله مولد فصل الربيع موعدا لرحيل عالم البيئة المرموق عبدالفتاح القصاص..رحل القصاص في اجمل فصول الطبيعية التي احبها وعاش لها حين تكتسي الاشجار بأوراقهم وتتزين بأزهارها وتعود الطيور المهاجرة إلي أوطانها. عبقرية القصاص صنعتها عبقرية بيئة البرلس في طفولته المبكرة حيث ولد عام1921 بكفر قدرة احد نجوع قرية برج البرلس, حيث كان يأكل من خيرات البحيره ويشرب من باطن الكثبان الرملية المحيطة بها ويتابع تعاقب الفصول من اسراب الطيور المهاجرة واسماك السردين الوافدة مع الفيضان, ومن هنا نشأ ارتباطه بالبيئة وكرس حياته للدفاع عنها. اعتاد القصاص لسنوات طويلة الذهاب مع شروق الشمس مترجلا الي مكتبه المتواضع في قسم النبات بعلوم القاهرة حيث يستقبل طلابه ومريديه من شيوخ وشباب وخبراء البيئه الساعين الي الاستزادة بخبرة مشوار حياته الحافل الذي حرص القصاص علي تسجيل بعض وقائعه في كتابه الأخير تحت عنوان خطي في القرن العشرين ومابعده, وهو اشبه بوصاياه للوطن والتي اوجزها بحلم أن يأتي يوم ندرك فيه بأن العلم هو قاطرة التقدم. ابرز د. القصاص في كتابه انه لم يكن من طراز العلماء الذين يفصلون بين العلم والسياسة حيث استثمر علمه في خدمه قضايا الوطن وهمومه ومواجعه من خلال المشاركة في لجان ومجالس حكومية ابرزها عضويته لمجلس الشوري منذ1981 حتي2001, والكتاب حافل بوقائع تاريخية سجل بها القصاص رأيه العلمي امام الساسة ومتخذي القرار بشجاعة غير عابئ بأي تبعات, فهو يري ان مقوله اهل الثقة مفضلون علي اصحاب الخبرة قد اضرت بمصالح بلدنا كثيرا بسبب الخلط بين الرأي العلمي والموقف السياسي, وهو ما تناوله بوقائع تاريخية لخبراء وطنيين تم حرمانهم من جوائز الدولة التقديرية او استبعادهم من وظائفهم او تهميشهم لمجرد ارتكابهم جرم نصح وتبصير اولي الامر بحقائق علمية خافية عليهم في مشروعات السدالعالي وتوشكي وترعة السلام ومناجم فوسفات ابو طرطور وغيرها مما أدي الي تكديرهم بدلا من تقديرهم. تناول د. القصاص في كتابه قضيه لا يدركها الكثيرون من الساسة ومتخذي القرار, وهي ان العلم بطبيعته تراكمي, ولذا فإن بناءه يماثل بناء العمارة كطوابق متتالية, حيث لا يمكن بناء طابق بدون سابقه او بدون اساسات قوية وهو ما يخالف ظنون البعض ان واقع تدهور التعليم والبحث العلمي في بلدنا يمكن تغييره بين يوم وليلة!!!! وهو امر ممكن في اي شئ الا العلم!! ومثال ذلك اننا بدأنا والهند في توقيت زمني واحد بالخمسينيات بناء مفاعلين احدهما بأنشاص والآخر بالهند بمساعدة روسيا ضمن برنامج طموح لاستخدامات الطاقة النووية حيث كان البرنامج الهندي بقيادة العالم بهابها بينما المصري بقيادة د. إبراهيم حلمي عبدالرحمن وتضمن برنامجنا آنذاك خطة طموحة لإعداد كوادر وبناء معامل لدرجه اننا اصبحنا والهند بنهايه الخمسينيات ضمن قائمة الدول العشر للنادي الدولي للعلوم الذريه وبلغ برنامجنا ذروته(1964 1966) بمشروع انشاء مفاعل نووي لإنتاج الطاقة وتحلية مياه الزراعة بموقع سيدي كرير, حيث توقفنا منذ ذلك الحين بينما واصلت الهند برنامجها مما جعلها قادره حاليا علي بناء مفاعلات وانتاج اسلحة نووية!!. وأشار د. القصاص الي دور العلوم الاساسية في بناء النهضة التكنولوجية وهو سر تفوق اسرائيل منذ السبعينيات في تكنولوجيا الالكترونيات إلي حد تصديرها منتجات الي الهند والمانيا وانجلترا وأمريكا بمليارات الدولارات, وهو بسبب نجاحها في استثمار تصدع الاتحاد السوفيتي!! حيث نجحت اسرائيل طبقا لما نشرته مجلة العلوم الامريكية في مايو1999 في استقطاب أكثر من عشرة آلاف عالم روسيا في الفيزياء والرياضيات من نحو خمسين ألف خبير كانوا يبحثون عن فرصة عمل في الخارج نتيجة تدني الرواتب والامكانات وسوء المعيشه تحت الحكم الشيوعي, واغرتهم بالهجرة والعمل بالجامعات ومراكز البحوث المرتبطة بالصناعات الالكترونية, وهو ما اسفر عن تحول اسرائيل من تصدير البرتقال الي تكنولوجيا الكترونيات متقدمة للغاية!!. إثار المقال غيرة د. القصاص فأرسل نسخة مترجمة بالعربية الي وزير التعليم والدولة للبحث العلمي آنذاك لعله يحفز الهمم ويحرك العزائم نحو اعداد كوادرنا الوطنية او استقطاب بعض العلماء الروس!!وهو مالم يلق اذانا مصغية!! وكان رد الفعل المعبر عن اولوياتنا هو نجاحنا في جذب نوعية اخري من الخبرات الروسية لإثراء الفن في الملاهي الليلية بشارع الهرم وغيره!. إذا أردنا حقا تكريم عالمنا الراحل, فعلينا بالوفاء ببعض وصاياه للوطن في كتابه خطي في القرن العشرين وما بعده.