ابوالفرج بن الجوزى الحنبلى (1116-1201م) له كتاب رائع عنوانه أخبار الحمقى والمغفلين يقول فى فصله الأول: الحماقة تعنى الكساد، فالأحمق كاسد العقل، لا يشاور أحداً. ويفرق ابن الجوزى بين الأحمق والمجنون، فيقول: إن الحُمْقَ هو الغلط فى الوسيلة والطريق إلى المطلوب مع صحة المقصود، أما الجنون فهو الغلط فى الاثنين الوسيلة والمقصد، فالأحمق لديه هدف صحيح، وقصد قد يكون نبيلاً، ولكنه عادة يسلك إليه طرقاً خاطئة لا توصله إلى مقصده. وطبقا لهذا المعنى للحماقة، وهو صحة المقصد وخطأ الوسيلة، سنكتشف أن كثيراً ممن حولنا من جماعات وأحزاب وسياسيين ومفكرين ومثقفين وإعلاميين هم حمقى بجدارة وامتياز يحسدون عليه، هم عباقرة فى الحماقة، أو كما قال الشيخ محمد الغزالى رحمة الله عليه، رداً على أحد المتنطعين ببعض المعلومات الدينية التى لم يفهموها، قال رحمه الله إن للحُمْقِ رجالاً، فعلا هناك رجال عظماء فى عالم الحماقة، وما أكثرهم فى مصر المحروسة بقوة الله. أصبح الحمقى هم المسيطرين فى كل مجال، أهدافهم وطنية أو دينية أو فكرية، وأحيانا مثاليات عالمية، ولكنهم يسلكون طرقا تدمر الأصل والغاية، تحطم المبدأ والهدف، تشوه الدين وتدفع الشباب للإلحاد، وهم يظنون أنهم يسعون لتحكيم الدين وتمكين أهل التدين من أهلهم، وذلك لأنهم يستخدمون الوسيلة الخطأ لتحقيق الهدف الصواب، لذلك هم من كبار الحمقى. وكذلك هناك من يظن أن يحمى الوطن ويدافع عنه وعن مؤسساته وعن جيشه العظيم، ولكنه يسلك طرقا تدفع الناس للكفر بالوطن والوطنية. وقد أفرد ابن الجوزى فصولا مطولة فى كتابه للحمقى من الحكام والقضاة والكتاب والفقهاء والوعاظ، والمفتين….الخ، أى أن هناك حمقى فى جميع مستويات المجتمع من قمة الهرم إلى قاعه، ومن قديم الزمان، من نحو ألف عام والحماقة موجودة فى مجتمعاتنا، من أعلاها إلى أدناها، لذلك لابد أن يبرز من يحدِّث كتاب ابن الجوزى ويضيف إليه فصولاً مطولة أيضا عن الحمقى والمغفلين فى مجالات جديدة لم يتطرق إليها ابن الجوزي. من أكابر الحمقى فى عصرنا ومصرنا مسئولون فى مؤسسات يناط بها تحقيق الأمن والعدالة فى المجتمع، وطنيون يحبون مصر ويهدفون إلى حمايتها من الإرهاب، ومن التطرف، ومن الإخوان، وفى سبيل ذلك يسلكون من السبل، ويستخدمون من الوسائل ويأتون بأفعال ضد العدالة بل هى عين الظلم، وضد الأمن بل هى أساس تهديد الأمن والدافع له، يظلمون الأبرياء ويهينون المواطنين، ويتعدون على كل من تشابه فى مظهره مع من يرونهم أعداء…هؤلاء حمقى كبار، أو من كبار الحمقى. ومن كبار الحمقى أيضا إعلاميون وصحافيون ينعقون كالغربان ليل نهار، يدَّعون أن أهدافهم نبيلة، وأنهم يحمون مصر، ويحمون ثورة مصر، ويتصدون للإرهاب والعنف والتدمير، ولكنهم يسلكون سبلاً ووسائل تدمر أهدافهم، إن كانوا صادقين، ينشرون الخوف، يضخمون الأزمات، يدفعون الناس لليأس، ويختلقون أزمات مع دول متحالفة مع مصر، ويربكون الحكومة، ويشلون حركتها البطيئة، هؤلاء حمقى، هؤلاء من كبار الحمقى. ومن كبار الكبار فى الحماقة رؤساء أحزاب يدَّعون أن أهدافهم تحقيق الديمقراطية فى مصر، والمنافسة السياسية، وقيادة مصر إذا حققوا الفوز فى الانتخابات، وفى سبيل تحقيق ذلك يسلكون الوسائل والأساليب الخطأ فيشلون حركة الدولة والحكومة، ويربكون المجتمع، ويتصارعون لتحقيق مكاسب شخصية وحزبية، لا يفعلون شيئاً لتثقيف الشعب وتحضيره للممارسة الديمقراطية الصحيحة، لا يفعلون شيئا للنزول إلى المجتمع لتعريف الشعب بأهدافهم، أو حشدهم وراء أحزابهم، كل ما يفعلونه أحاديث تليفزيونية تنشر الشك والتشاؤم تجاه مستقبل الديمقراطية فى مصر، يتناكفون فيما بينهم، ويتصارعون بصورة غير ديمقراطية، هؤلاء هم رجال الحماقة الكبار الذين تدمر وسائُلهم أهدافهم. ومن عظماء الحماقة مفكرون ومثقفون، يدَّعون أنهم يحاربون التطرف والعنف والانغلاق ويدعون إلى التنوير والعقلانية وحرية التعبير، ولكنهم يسلكون سبلاً غير ديمقراطية، وغير عقلانية، يتدخلون بصورة ديكتاتورية فى حرية الآخرين اختياراتهم، فيهاجمون كل مظاهر التدين ويسخرون منها، ويحشدون الجماهير لتهديد حرية الآخرين، وما دعوة أحدهم لخلع الحجاب الذى هو من شعائر الإسلام بإجماع الأمة إلا نموذج صارخ للعظمة فى الحماقة. ولا ننسى حماقة الذين رفعوا أعظم مثاليات الكون، مثاليات الإسلام فى العدالة، وكرامة الإنسان، وتحقيق الأمن العام فى المجتمع، وحكم القانون الذى لا يفرِّق بين قوى وضعيف، وغنى وفقير…مثاليات عظيمة رفعها من لم يعرف كيف يحققها فى أرض الواقع، بل على العكس من ذلك سلك ذلك الحزب من السبل والوسائل ما يجهضها، ويفشلها ويزهَّد الناس فيها، فبدلاً من سلوك وسائل وسبل تتسق مع الغايات والأهداف التى تم وضعها، سلك حزب الحماقة كل ما يناقض قيم الإسلام ومقاصده وغاياته، من الخداع والأنانية والغدر والفساد الإداري، والإضرار بمصالح كل من يقف فى طريق تمكينهم من رقاب الشعب المصري. أخبار الحمقى والمغفلين كثيرة ومتعددة، وحصر الحماقة فى مصرنا وعصرنا صعب بل مستحيل، لأنها أصبحت ثقافة عامة يحرص على نشرها أعلام رجال الأعمال وما فيه من انتهازيين يتاجرون بدماء البسطاء لجمع عشرات الملايين، يدعون السعى لتحقيق أهداف نبيلة، وفى الوقت نفسه يسلكون من السبل والوسائل على العكس تماما مما يدَّعون من أهداف، ويساندهم فى ذلك ثقافة غرائزية شهوانية يمولها تجار اللحوم البشرية الرخيصة. حالة الحَمَقْ التى نعيشها لن يخرجنا منها إلا أن تقوم الدولة بدورها فى الثقافة والإعلام، فى صناعة الوعى وتثقيف الشعب، أى أن تعود الدولة إلى دورها فى قيادة المجتمع وترشيد حركته، ولا تتركه لعصابات الانتهازيين أيا كان أسمهم أو لونهم أو مواقعهم، أن تعود وزارة الثقافة ومؤسساتها للقيام بدورها فى صناعة السينما والمسرح، وأن تعود قصور الثقافة وتنتشر أكثر، ويتم تفعيلها فى تثقيف الجماهير وإطلاق طاقات الموهوبين، وأن يعود الإعلام المصرى للقيام بما يجب عليه أن يقوم به، وأن تدرك الدولة أن الإعلام ليس تجارة شنطة تتركها لأصحاب المصالح والمنتفعين من تضليل الشعب وتدمير المجتمع، وبدون ذلك سنظل نعيش ما بقى من العمر مع الحمقى والمغفلين ولكن للأسف دون ان ندرى. لمزيد من مقالات د. نصر محمد عارف