ثلاثة دوافع تنازعت في ذهني وأنا أهم بكتابة تلك الكلمات في وداع فقيد مصر والعالم العربي كله,البابا شنودة الثالث, بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية, وهي دوافع شخصية, وسياسية ودينية! ولأن الدوافع السياسية والدينية سوف يشترك فيها كل من يكتبون في ذلك الموضوع, فسوف أقتصر هنا علي بعض اللقطات والملامح الخاصة عن تلك الشخصية الفريدة. فتشرفي بمعرفة البابا شنودة يعود إلي عام 1977 عندما كان عمري حينها ثلاثين عاما. وقدم لي والدي (رحمه الله) كتابا كان قد أهداه له قداسة البابا ولا يزال الكتاب عندي- وعليه بخط قداسة البابا الكلمات الآتية: هدية محبة وتقدير إلي صديقنا العالم الجليل الأستاذ محمد الغزالي حرب بمناسبة عيد ميلاده السعيد والإمضاء: شنودة 11 نوفمبر 1977 أما الكتاب نفسه, فكان: الحريات العامة في الفكر والنظام السياسي في الإسلام: دارسة مقارنة تأليف د. عبدالحكيم حسن العيلي المحامي (دار الفكر العربي, 1974)! وعلمت في حينها أن والدي كانت تربطه بقداسة البابا معرفة وصداقة في النصف الأول من الخمسينيات (أي في فترة حياته المدنية, قبل أن ينتقل للرهبنة عام 1954) وكان في ذلك الوقت الشاب نظير جيد الذي عمل بالتدريس لبعض الوقت, ثم تفرغ للخدمة في كنائس شبرا ومدرسة الأحد (التي كانت تقع قبالة منزلنا بشارع روض الفرج), في حين كان والدي يعمل بالتدريس أيضا بمدرسة شبرا الثانوية. ويبدو أن ما جمع بينهما لم يكن فقط المعيشة والعمل المشترك في حي شبرا العريق, وإنما أيضا حب الشعر والأدب, فضلا عن انتمائهما لجيل واحد. وبطبيعة الحال, في خضم ظروف الحياة, ومع انتقال نظير جيد إلي حياة الرهبنة, بدءا من عام 1954, انقطعت صلة والدي بصديقه القديم, الذي اتخذ اسما دينيا هو الراهب انطونيوس. ويبدو أن العلاقة لم تستأنف, حتي عندما رسم الراهب انطونيوس قسا في عام 1958, أو عندما أصبح عام 1962- أسقفا للتعليم. وفي أكتوبر 1971 وعقب وفاة البابا كيرلس, ومن خلال القرعة الهيكلية, اختير الأسقف شنودة ليكون البابا رقم 117, ليكتشف والدي أنه هو صديقه القديم في شبرا, الأستاذ نظير جيد! وكانت تلك بداية لتواصل جديد مع البابا شنودة. غير أن هناك رواية طريفة أخري تستحق الذكر! فقد حدث أنني في عام 1985 وعندما بلغت ابنتي الكبري (دينا) سن الرابعة, ذهبت لتقديم أوراقها إلي كلية رمسيس للبنات, غير أنني فوجئت بأن الإقبال شديد للغاية علي المدرسة, وأن الأولوية بالتالي كانت للأكبر سنا, مما أغلق الباب أمام عدد كبير من الطالبات الأصغر سنا. وعبثا, كنت أذهب إلي المدرسة وأقابل مديرتها في ذلك الوقت, المربية الفاضلة رضا سلامة, ولكني كنت أعود دائما بخفي حنين! ومع أنني كنت أعلم أن المدرسة تتبع هيئة سنودس النيل الإنجيلية (البروتستانتية), وأن لا علاقة لها بالكنيسة الأرثوذكسية, فقد طلبت من والدي أن يوسط في ذلك الأمر صديقه قداسة البابا! وبالفعل, ومن خلال موعد رتبه في ذلك الحين علي ما أتذكر- الأنبا بسنتي الذي كان شابا يافعا, ذهبت مع والدي لمقابلة البابا شنودة! كانت بالنسبة لي مناسبة خاصة جدا, لها رهبتها, خاصة عندما دخلنا إلي القاعة الكبيرة بالكاتدرائية المرقسية, حيث يجلس البابا بهيئته المهيبة علي كرسيه المميز. وكانت مفاجأتي الكبري, وأنا أشاهد قداسة البابا وهو يعانق والدي بحرارة وصدق قائلا مرحبا يا أستاذ غزالي! وجلست قرابة الساعتين مشدوها, وأنا أتابع حوارا أدبيا ولغويا رفيعا ورائعا, ولا أزال أذكر بشأنه موضوعين: الأول, حب وولع البابا شنودة ليس فقط بالشعر العربي الفصيح, وإنما أيضا بذلك النوع من الشعر العامي الساخر المعروف بالشعر الحلمنتيشي!, والذي عادة ما يتصف قارضه وسامعه بروح الفكاهة وخفة الدم! أما الأمر الآخر, فكان حديث قداسة البابا عن رحلة كان قد قام بها (قبل مقابلتنا معه بفترة قصيرة) إلي ليبيا, التقي خلالها بالعقيد القذافي وبالقيادات الليبية, وكانت بالطبع مثارا لتساؤلات ولأسف منه إزاء قيادة عربية من ذلك النوع. وبعد ذلك, فاتح والدي قداسة البابا في رغبته في توسطه لقبول دينا في كلية رمسيس, فقال له: يا غزالي.. هذه مدرسة تتبع الكنيسة الإنجيلية لا الأرثوذكسية, ولذا فلا أستطيع أن أتوسط لديهم! فقال له: أعلم ذلك, ولكني أتمني أن تساعدني, فتلك حفيدتي الأولي! فما كان من قداسته إلا أن أخرج أحد كروته الشخصية( وكانت مرقمة!) وكتب عليه ما نصه تقريبا ابنتي العزيزة رضا سلامة.. أرجو ألا تخذلي حامل هذا صديقي الأستاذ الغزالي حرب في قبول حفيدته دينا لديكم! وفي اليوم التالي, ذهبت إلي كلية رمسيس, وما إن دخلت مكتب الأستاذة رضا سلامة, حتي عاجلتني بسرعة, ألم أقل لك إنه لا توجد فرصة هذا العام لابنتك؟. قلت لها: أعلم ذلك, ولكن لدي شيئا أريد أن أوصله لك! وأعطيت لها الكارت فحدقت فيه بدهشة شديدة قائلة: هذا شيء لم أره من قبل! أرجوك اذهب, وسوف أنظر في الأمر! وأتذكر حينها أنني عدت علي الفور إلي مكتبي بالأهرام, في الحجرة رقم 616 بالدور السادس, وقابلت في الممر أستاذنا الراحل العزيز أبوسيف يوسف, المناضل اليساري والكاتب حينذاك بمجلة الطليعة, وحكيت له ما حدث, طالبا رأيه باعتباره قبطيا, فقال بحكمة كانت تسم حديثه دائما: إن قيام البابا بكتابة مثل هذا الكارت هو أمر غير مألوف, ودليل علي حبه لوالدك واعتزازه به, ورضا سلامة سوف تفهم ذلك, فضلا عن أنه ليس من المتصور أن ترفض طلبا للبابا, ولذا فألف مبروك علي قبول دينا بكلية رمسيس! وبالفعل, وبعد بضعة أيام, وصلني إخطار بقبول دينا ضمن فصل جديد للطالبات الأصغر سنا اللائي كن يقفن في طابور الانتظار! والأغلب أن كارت قداسة البابا لا يزال محفوظا في كلية رمسيس في ملف دينا أسامة الغزالي حرب التي تخرجت في المدرسة عام 1998 ومع أنه كان من الطبيعي, بحكم عملي في الأهرام, وعضويتي في كثير من الهيئات, ثم في مجلس الشوري, أن التقي في مناسبات عديدة بقداسة البابا الذي كانت يحرص في كل مرة أقابله فيها- علي أن يقول لي كان والدك صديقا عزيزا لي!. إلا أن تقليدا جميلا ساد لفترة في الأهرام, بتدبير من الزميل الأكبر الفاضل الأستاذ رجب البنا, ساعد علي أن التقي كل عام- ضمن مجموعة من الزملاء بالأهرام- قداسة البابا, إما في الكاتدرائية أو في الدير بوادي النطرون! ولاشك في أن زيارات وادي النطرون كانت ذات مذاق روحي خاص, جميل ومهيب. وفي أكثر من مرة, كانت تتم تلك الزيارة في شهر رمضان قبيل الإفطار, حيث نستمتع أولا بحديث شيق مع قداسته, تتبدي فيه مصريته الأصيلة من خلال حبه للفكاهة والقفشات اللفظية الذكية واللماحة! فإذا اقترب وقت الإفطار, صعد بنا إلي سطح الدير الواقع في الخلاء وسط صحراء وادي النطرون المترامية, ليقول: ليس هنا مذياع ولا ميكروفون لسماع الأذان.. ولكنكم تستطيعون أن تشهدوا المنظر الخلاب لغروب الشمس, ليحق لكم الإفطار بعد ذلك! ثم ننزل جميعا لتناول الإفطار الذي تعده بالدير سيدات متطوعات, إفطار رمضاني بسيط يستأنف فيه الحديث الشيق مع البابا. لم يكن من الصعب علي أي منا نحن الذين تعودنا اللقاء به أن نلاحظ في حديثه مسلمتين لا مساومة بشأنهما. الأولي: أن السلام مع إسرائيل لن يتحقق إلا بعد حصول الشعب الفلسطيني علي حقوقه المشروعة الكاملة. وإلي أن يتحقق ذلك, فلا محل لأي ذهاب إلي القدس للأقباط, شأنهم شأن اشقائهم المسلمين, فهم جزء لا يتجزأ من نسيج مصر والأمة العربية! الثانية أن الوحدة الوطنية فريضة علي كل مصري, ولا محل في مصر لأي تمييز طائفي أو ديني. فإذا كان التعبير الأشهر للبابا شنودة هو أن مصر ليست وطنا نعيش فيه, ولكنه وطن يعيش فينا, فقد كان هو نفسه نموذجا لذلك المصري الذي تعيش مصر فيه بكل جوارحه ووجدانه, حتي اليوم الأخير من حياته الثرية الحافلة. المزيد من مقالات د:أسامة الغزالى حرب