فى اوائل الخمسينيات توجه شاب أسمر نحيل إلى مجلة آخر ساعة دون أى مواعيد مسبقة، وطرق باب غرفة الراحل الكبير كامل الشناوى ووقف منتظرا، حتى انتهى الشاعر الكبير من الحديث مع الموجودين ولم يبق سواه ، فنظر اليه الشناوى متساءلا ماذا تريد؟ .. فتقدم إليه بأيد مرتعشة مقدما كراسا صغيرا يضم عدة قصائد والذى اصبح فيما بعد مع بعض التعديلات ديوانه الشعرى الأول أغانى افريقيا وما ان تصفح كامل الشناوى الصفحات الأولى من الكراس حتى انتقل من خلف مكتبه الى هذا الشاب معانقة إياه حتى كاد يعتصر جسده النحيل. ثم اصطحبه الى حيث غرفة مكتب محمد حسنين هيكل رئيس تحرير المجلة آنذاك، وصاح بفرح كبير موجها حديثه لهيكل «موهبة جديدة وواعدة»، وعلى الفور أصدر هيكل قرارا بتعيينه محررا ثقافيا بالمجلة، وهو لا يزال طالبا بالمرحلة الثانوية فى معهد الإسكندرية الأزهرى. وعاد الشناوى بالشاب الأسمر الى غرفته واستدعى بعضا من المحررين الثقافيين ليقدمه لهم ، وبعدها عاد الشاب الى محطة القطار متوجها إلى الإسكندرية ليخبر أهله وهو غير مصدق لما جرى . وبعدها بسنوات قليلة جدا أصدر الزعيم الراحل جمال عبد الناصر تعليمات بتدريس أشعار هذا الأسمر للتلاميذ ضمن المقررات الدراسية، وهو مازال فى مقتبل الشباب، ليكون أصغر من درسنا أشعاره فى المدارس المصرية والعربية. إنه شاعر إفريقيا العظيم محمد الفيتورى، الذى احتفت به مصر منذ الخمسينيات وهو مجرد طالب بالثانوى ينتمى لأسرة سودانية كانت تعيش فى محافظة البحيرة. لم يسأله أحد حينذاك عن سنه أو جنسيته أو لونه، وإنما اهتموا فقط بموهبته الشعرية الفذة، وقصائده التى تتغنى كلها بالقارة السمراء التى ينتمى إليها، فاحتضنه الجميع من كامل الشناوى ومحمد حسنين هيكل وحتى جمال عبد الناصر. ورحل الفيتورى يوم الجمعة الماضى فى المغرب، بعد رحلة طويلة تنقل خلالها من السودان إلى مصر وليبيا ولبنان ، تأثر خلالها بالتقلبات السياسية التى شهدها الوطن العربى حتى استقر فى نهايات أيامه مع شريكة عمره فى المغرب، التى دفن بها. عندما احتضنت مصر الفيتورى، كانت تحتضن كل المواهب والرموز الإفريقية فى الثقافة والأدب والسياسة والاقتصاد والتحرر الوطنى، وتم إنشاء الجمعية الإفريقية ومجلة نهضة إفريقيا ومعهد البحوث والدراسات الإفريقية، وتكوين رابطه أدباء آسيا وإفريقيا التى كانت تصدر من القاهرة بكل ألوان الفنون الأدبية، وإنشاء الإذاعات الموجهة وبث برامجها فى شرق وغرب إفريقيا بالسواحلية والهوسا واليوربا , ودعمت مصر الأدب الزنوجى للثلاثى (سنجور- سيزير- داماس)، باختصار احتضنا افريقيا كلها فتعلقت بنا وتقاسمت معنا المصير. وعندما ابتعدنا عن افريقيا، تركتنا وراحت تبحث عن مصالحها مع الآخرين، حتى لوكان ذلك على حساب مصالحنا. ماذا نعرف الآن عن الشعر والأدب الإفريقى، هل سمعنا عن شينوا أتشيبى الروائى الذى يوصف عادة بأنه «عميد قبيلة كتّاب إفريقيا» أومازيسى كونين أو نادين جورديمر الأديبة الجنوب إفريقية، والحاصلة على نوبل عام 1991، إلى جانب أليكس لاجوما وجيمس ماثيوز وبيراجو ديوب وسيمبن عثمان وأبيوسيه نيقول وباربرا كيمنى وجيمس نجوجى. كم عملا من أعمال الأدباء الأفارقة يدرس ضمن مناهجنا التعليمية بالمدارس المصرية الآن ؟، وماعدد دور النشر المصرية المتخصصة فى الأدب الإفريقى ؟! ملحوظة: فى ايطاليا فقط يبلغ عدد دور النشر التى تنشر أعمال الأفارقة 50 دار نشر. وبعد ثورة 30 يونيو عقد اتحاد الكتاب برئاسة محمد سلماوى آنذاك، مؤتمرًا مهما بعنوان »إفريقيا بعيون مصرية«، وتمنى سلماوى أن يكون هذا المؤتمر بمثابة بوابة جديدة لعلاقات مصرية - إفريقية لا تتذبذب، ولا تتغير، ولكن تقوم على الثوابت الثقافية، والأدبية، والفنية التى تجمع أبناء القارة العظيمة التى أجمع العلماء على أنها كانت مهد البشرية، وبداية الخليقة. ومن أهم ما جاء فى هذا المؤتمر، ماذكره السفير رضا أحمد حسن مساعد وزير الخارجية الأسبق عن وجود مغالطات فى الكتب المدرسية المصرية عن الأواصر المصرية الإسلامية الإفريقية، و لذلك يجب تغيير النظرة من الجهتين، فإفريقيا ليست فقط حروبا ومجاعات وأمراضا كما يصورها الإعلام الغربى، فهى تمتلك كما من الثروات يجعلها أغنى من الغرب ذاته . وتأكيده أن التحدى الذى نواجهه لا يتعلق فقط بحوض النيل و مشكلة المياه ، بل أيضا بالكهرباء و التنمية و الموارد ،و مخاطر تهريب السلاح فى إفريقيا و القرصنة، فهذه تحديات تواجه القارة بأكملها ، و لا تخص بلدا بعينه ولكن المؤتمر انتهى دون أن تهتم الأجهزة الثقافية المصرية بإحداث طفرة فعلية فى العلاقات مع إفريقيا، وظللنا محلك سر، فهل ننتبه الآن ونعيد الاهتمام الثقافى المفقود بالقارة السمراء ؟ نتمنى ذلك ونحن نودع صوت إفريقيا محمد الفيتورى .. مع السلامة يا عمنا. كلمات: لا تتوقف عن الابتسام حتى وإن كنت حزينا، فلربما فتن أحد بابتسامتك جابرييل جارسيا ماركيز لمزيد من مقالات فتحي محمود