في مثل هذا الشهر (فبراير) سنة 1928 وُلِد العالِم المصري المُتفرّد الدكتور جمال حمدان، الذي أثري المكتبة الإنسانية بكنزٍ من الكُتُب والدراسات، لعل أكثرها شُهرةً كتابُه (شخصية مصر - دراسةٌ في عبقرية المكان) وكان هو نفسه نموذجاً في عبقرية الإنسان الذي يعرف معني كرامة العِلم والعالِم.. يكفي أن هذا العالِم الجليل عندما زاحَمَه أحد الصغار علي استحقاقه في الجامعة، تَرَك له الجَمَلَ بما حَمَل.. بل خاصَم الدنيا كُلّها وعكف راهباً في صومعته ينهلُ من العِلم ويُضيفُ إليه ويُخرج لنا هذه الأسفار إلي أن غادر دنيانا قتيلاً في صومعته الصغيرة بحي العجوزة عن خمسةٍ وخمسين عاماً فقط .. فاز الصغار بالمناصب (كعادتهم دائماً) ولم تكسب مصرُ منهم شيئاً ولكنها فازت بجمال حمدان. علي العكس من كثيرين، لا يُحبطني ما يحدث في مصر من تفاعلاتٍ بدأت من قبل خَلْع مُبارك وما زالت مستمرّةً رغم ما يُصاحبها أحياناً من شططٍ أو تعثّر.. كلما أعدتُ قراءة كتابات جمال حمدان وجدتُ تفسيراً لما حدث ويحدث فيزداد تفاؤلي.. إنه المارد يستيقظ بعد رقودٍ وركودٍ قسري امتد إلي ما يقترب من أربعين عاماً.. أنستكثر عليه أن يفرك عينيه وينتفض قائماً في خمس سنوات؟.. مصر تعود إلي موقعها وتلك إرهاصات العودة.. فهذا قَدَرُ مصر وقَدْرُها بين موضعٍ حباها الله به وبين موقعٍ تستحقه يُزاحمها عليه الآخرون ويتآمرون عليه وعليها. وليسمح لي القارئ الكريم بالعودة إلي بعض ما قاله جمال حمدان في هذا الشأن: (كلما أمعَنّا تحليل شخصية مصر وتعمقناها استحال علينا أن نتحاشي هذا الانتهاء: وهي أنها فلتةٌ جغرافيةٌ لا تتكرر في أي ركنٍ من أركان الدنيا.. فالمكان «أي الجغرافيا» كالتاريخ لا يُعيد نفسه.. تلك هي حقيقة عبقريتها الإقليمية). (تفسير هذه الشخصية الفلتة هو التفاعل ائتلافاً أو اختلافاً، بين بُعدين أساسيين في كيانها وهما المَوْضع Site والمَوْقِع Situation.. فالموضع نقصد به البيئة الطبيعية بخصائصها وحجمها ومواردها في ذاتها، أي البيئة النهرية الفيضية بطبيعتها الخاصة وجسم الوادي بشكله وتركيبه.. إلخ.. أما الموقع فهو صفةٌ نسبيةٌ تتحدد بالنسبة إلي توزيعات الأرض والناس والإنتاج حول إقليمنا، وتضبطه العلائق المكانية التي تربطه بها.. الموضع خاصيةٌ محليةٌ داخليةٌ ملموسةٌ، ولكن الموقع فكرةٌ هندسيةٌ غير منظورة). (بهذين العنصرين الجوهريين والعلاقة المتغيرة بينهما نفسر شخصية مصرنا.. فهما يختلفان حين نجد أن حجم الموضع كان دائماً لا يتكافأ مع خطورة الموقع الحاسم علي ناصية العالم.. وحين نجد أن الأول «الموضع» ينتظم قدراً ما من العُزلة، والثاني «الموقع» يفرض فيضاً من الاحتكاك.. وهما يأتلفان في الأثر حين يدعوان إلي الوحدة السياسية والمركزية العنيفة، ومن حيث أن زمامهما ليس محلياً تماماً وإنما يرتبط بعوامل خارجيةٍ بعيدة.. وبين هذا الشد والجذب تخرج شخصية مصر الكامنة كَفَلتةٍ جغرافيةٍ نادرة). (مصرُ بطريقةٍ ما تكاد تنتمي إلي كل مكانٍ دون أن تكون هناك تماماً .. فهي بالجغرافيا تقع في أفريقيا، ولكنها تَمُتّ أيضاً إلي آسيا بالتاريخ .. هي في الصحراء وليست منها، إنها واحةٌ ضد - صحراوية، بل ليست بواحةٍ وإنما شبه واحة.. هي فرعونيةٌ بالجد ولكنها عربيةٌ بالأب.. هي بجسمها النحيل تبدو مخلوقاً أقلّ من قوي، ولكنها برسالتها التاريخية الطموح تحمل رأساً أكثر من ضخم.. وهي بموقعها علي خط التقسيم التاريخي بين الشرق والغرب تقع في الأول، ولكنها تواجه الثاني وتكاد تراه عبر المتوسط). (وإذا كان لهذا كله مغزي، فهو ليس أنها تجمع بين الأضداد والمتناقضات، وإنما أنها تجمع بين أطرافٍ متعددةٍ غنيةٍ وجوانب كثيرة خصبة وثرية.. بين أبعادٍ وآفاق واسعةٍ بصورةٍ تؤكد فيها مَلَكة الحد الأوسط وتجعلها سيدة الحلول الوسطي.. تجعلها أُمةً وَسَطاً بكل معني الكلمة .. بكل معني الوسط الذهبي.. ولكن ليس أُمةً نِصفاً.. وسطٌ في الموقع والدور الحضاري والتاريخي.. في الموارد والطاقة.. في السياسة والحرب.. في النظرة والتفكير.. إلخ). رَحِم الله جمال حمدان رحمةً واسعةً ورَحِم مصر من الصِغار والأنصاف في الداخل والخارج. لمزيد من مقالات م يحيى حسين عبد الهادى