الأم الغالية

نحن ثلاثة أشقاء، الأكبر عمره تسعة وأربعون عاما،
تليه أختى وتصغره بثلاث سنوات، ثم أنا وعمرى ثلاثة وأربعون عاما، وقد توفيت أمنا ونحن أطفال صغار، ولم يكن هناك من يسهر على شئوننا، فقررت عمتى أن تتفرغ لهذا الدور، وأن تنفصل عن زوجها من أجل رعايتنا، وعلى مدى سنوات طويلة ضحت براحتها وعانت الكثير فى سبيل تربيتى أنا وإخوتي، إذ كان والدى دائم السفر، وكانت هى تصحو من النوم مبكرا لتجهيز طعام الإفطار لنا وتوصيلنا الى المدارس، وبعد العصر تتابع مع المدرسين وهم من نفس المنطقة التى نقطن بها فى إحدى قرى الصعيد، مستوانا الدراسي، وتسهر بجانبنا ونحن نستذكر دروسنا، وتوفر لنا كل ما نطلبه، ولا يغمض لها جفن إلا بعد أن تطمئن الى أننا أتممنا ما هو مطلوب من واجبات مدرسية.
وقد تزوج والدى من سيدة أنجب منها طفلا ثم طلقها بعد فترة قصيرة، فانضم إلينا وهو فى عمر ستة أشهر لا غير، وزادت المسئولية على عمتنا فلم تكل أو يعرف الضجر إليها طريقا.. ثم ما هى إلا شهور أخرى حتى تزوج ابى من سيدة صغيرة أنجب منها سبعة أطفال ثم رحل عن الحياة، ومازالت عمتى برغم بلوغها خمسة وسبعين عاما تتابعهم، وقد تنازلت عن ميراثها عن أبيها من أجل تربيتنا.
وأنا الآن أعمل فى وظيفة حكومية وأعيش فى القاهرة، ويعمل أخى الأكبر مدرسا فى إحدى مدارس الصعيد، ولا يهدأ لى بال إلا بعد الاتصال بها يوميا، فعندما أسمع صوتها أشعر بالراحة والطمأنينة وأطلب منها الدعاء لنا جميعا بالصحة والستر، ويحبها أولادنا حبا جما، ونسعد بها فى كل زيارة الى بلدتنا.. إنها فعلا أم مثالية، بل قلما تصنع كثيرات من الأمهات هذا الصنيع، وتستحق أن تحصل على تأشيرة حج وزيارة بيت الله الحرام.
ولكاتب هذه الرسالة أقول:
نهر الحياة مملوء بالفضليات اللاتى يؤثرن الآخرين على أنفسهن ولو كانت بهن خصاصة، نعم يا سيدي، فعمتك ضحت بسعادتها وحياتها، وانفصلت عن زوجها الذى ربما لم يعجبه أن تكرس وقتها لغير بيتها، لكنها لم تندم، وأدركت أن رسالتها فى تربية أولاد شقيقها بعد رحيل أمهم أغلى وأثمن عندها من أى هدف آخر، فاتخذت منكم أبناء لها، ولم يعرف اليأس إليها طريقا، وبرغم زواج أبيك زيجتين أخريين بعد رحيل والدتكم، إلا أنها أدت الرسالة بنجاح نحو الجميع، ومازالت تؤديها مع إخوتك الصغار برغم سنها المتقدمة، وأحسب أنكم تساعدونها على تربية إخوتك من أبيك، فهذا هو الواجب المفروض عليكم نحوهم، ويكفيها الدور العظيم الذى أدته باقتدار، وهى بالفعل أم مثالية، وتستحق عن جدارة أن تحصل على تأشيرة الحج التى ترغب فيها، وليدبر الله أمرا كان مفعولا.