فى شارع عمر المختار فى وسط طرابلس يقول أحد أبناء المدينة بصوت خافت خشية أن يسمعه أحد قادة الميليشيات المتطرفة فى قلب العاصمة التى يملؤها التوجس والشك: كانت أيام معمر القذافى أكثر أمنا من حكم هؤلاء المسلحين. نحن لا نريد لنظام القذافى أن يعود لحكم ليبيا بطبيعة الحال، لكن نريد زعيما ليبياً مثل الرئيس عبد الفتاح السيسى ليقضى على هذا الكابوس. يبدو الوضع فى ليبيا صورة طبق الأصل مما كان يمكن أن يحدث فى مصر لو استمر حكم جماعة الإخوان الإرهابية بقيادة الرئيس الأسبق محمد مرسي. فحين وصل إخوان ليبيا إلى الحكم فى بداية 2012 بمساعدة حلفائهم من غلاة المتطرفين المنتمين لتنظيم القاعدة، اعتقد الليبيون، كما اعتقد المصريون تجاه مرسى وجماعته وحلفائه، أن أهداف الثورة فى الحرية والديمقراطية والعدالة، ستتحقق على أيدى هذه الجماعات. لكن ما حدث هو العكس. وبينما تمكنت مصر سريعا، على يد الشعب والجيش، من وضع حد لمحاولات تقويض الدولة المصرية، تمكنت الجماعة على الجانب الآخر من الحدود الغربية، من الدفع بالدولة الغنية بالنفط، إلى مستقبل غامض وتوقعات لا تبشر بخير، رغم أن الحوار الذى ترعاه الأممالمتحدة هذه الأيام، وتدعمه بعض دول الجوار ومنها مصر، بدأ يسهم فى تفتيت التحالف الذى كان يعتمد عليه الإخوان فى محاربة باقى الليبيين. كيف بدأ الصراع فى ليبيا وإلى أين يمكن أن ينتهي؟ الأمر يشبه رجلا ارتكب الكثير من الأخطاء إلى الحد الذى أصبح من الصعب أن يتراجع أو يتوب. هذا ما فعلته زمرة الإخوان المتشددين فى ليبيا، بمساعدة أطراف إقليمية ودولية، لكن هذا بالنسبة لغالبية الليبيين لم يكن يجوز أن يستمر. البداية كانت بوصول الإخوان لحكم ليبيا فى مطلع عام 2012. وبينما كان الشعب يأمل فى أن يدعم الحكام الجدد بناء الجيش والشرطة والمؤسسات، فوجئ بأن الإخوان يتحالفون مع نواب ومسئولين تنفيذيين هم فى الأساس من الموالين لتنظيم القاعدة، ويعملون على تعزيز قوات الميليشيات وإنشاء أجهزة أمن خاصة، مع تهميش للجيش والشرطة والمخابرات. بدأ الليبيون وقتها ينظرون بعين الريبة إلى ما يجري، خاصة بعد أن بدا أن العلاقات والثقة تزداد بين دول مثل قطر وتركيا وبريطانيا وأمريكا من جانب، وقادة المتشددين الليبيين، من الجانب الآخر، ومن بينهم أسماء معروفة مما يسمى ب«الجماعة الليبية المقاتلة» التى تأسست أصلا فى أفغانستان، ومع جهاديين ليبيين، من بينهم أول مؤسس لمجموعة قتالية ضد الرئيس السورى بشار الأسد، وهى مجموعة “لواء الأمة”. ومرت الشهور دون أن يستمع الإخوان للمطالب الشعبية الداعية للتخلص من الميليشيات. وكان المسلحون المتطرفون، المدعومون ماليا من خزينة الدولة، يردون على المتظاهرين بإطلاق الرصاص الحى عليهم فى الشوارع والميادين. وجرت أكبر عملية لتصفية الكوادر والقيادات التى كان لديها القدرة على التأسيس لدولة ما بعد القذافي، من خلال قانون العزل السياسى الذى جرى سنه فى 2013، ومن خلال عمليات الاغتيال لعناصر الجيش، ومن خلال السيطرة على صادرات النفط والغاز. لكن حين اقتربت المدة القانونية لانتهاء أعمال البرلمان مطلع العام الماضي، شعر النواب الإسلاميون بأن الشارع الليبى والناخبين أصبحوا ضد استمرارهم فى إدارة الدولة الليبية. ولهذا أخذ البرلمان وقتها يماطل فى إجراء انتخابات جديدة، إلا أن الحراك الشعبى فى طرابلس وبنغازى وغيرهما من المدن نجح فى انتخاب برلمان جديد قبل خمسة أشهر، ليخسر النواب الإسلاميون الأغلبية. ومنذ تلك اللحظة رصت جماعة الإخوان صفوفها مع الميليشيات المتطرفة، واستندت على مقاتلين وقادة معظمهم من مدينة مصراتة القريبة من طرابلس، ودخلت فى مجابهة مع قوات اللواء حفتر ورفضت الاعتراف بالبرلمان الجديد تحت عدة حجج واهية. وبدأ يظهر فى ليبيا ثلاث جبهات : الجبهة الأول يقودها الإخوان والثانية يقودها الجيش، أما الجبهة الثالثة والتى لم تنخرط فى القتال بشكل مباشر بعد فتعرف ب”أنصار القذافي”. وفى ضوء خسارة إخوان مصر للحكم فى 2013، وتعرضهم لضربات أمنية فى العديد من الدول المعتدلة الأخرى، بدا أن الجماعة تخوض معاركها الأخيرة فى ليبيا وقامت بالتعاون مع الجماعات الجهادية بجلب ألوف المقاتلين الأجانب وأغرت المجرمين الهاربين من السجون منذ ثورة فبراير بالقتال معها. وظهر من تصريحات العديد من قادتها أنها تخوض حرب “حياة أو موت”، ليس للإخوان فقط، ولكن لباقى التنظيمات المتطرفة. كان أمام إخوان ليبيا طريقان منذ مقتل القذافي. طريق المشاركة وطريق المغالبة، لكن الجماعة اختارت إخضاع الليبيين لحكمها بالقوة. وأضاعت فرص الحوار الداخلى وبناء الدولة. واستمر هذا الوضع إلى أن بدأت مصر ودول الجوار والأممالمتحدة الدعوة إلى ضرورة أن يجلس الليبيون حول طاولة لبحث مستقبل بلدهم قبل أن تأكل النيران ما تبقى منها، خاصة بعد تدمير الميليشيات لمطار طرابلس الدولى وحرق الملايين من براميل النفط وتعطيل التصدير من الموانئ. واتهمت الجماعة ومن معها من قوات للمتطرفين كل من يدعو للحوار بالخيانة والخروج عن ثوابت الثورة رغم أن الناخبين الليبيين كانوا قد نبذوا هذه التوجهات الإخوانية فى الانتخابات الأخيرة. وردت على أول لقاء يعقد بين أطراف ليبية فى مدينة غدامس أواخر العام الماضى بالتهديد والوعيد. وأفشلت أى محاولة لعقد أى لقاء آخر داخل ليبيا. ومن هنا قررت الأممالمتحدة عقد تنظيم الحوار فى جنيف، ودعت كل الأطراف بما فيها الإخوان وقادة الميليشيات. لكن الجناح المتشدد - الذى يملك القوة العسكرية داخل الجماعة وفى أوساط المتطرفين - أعلن أخيرا أنه لن يشارك فى أى حوار لا داخل ليبيا ولا خارجها، ليترك الباب مفتوحا على كل الاحتمالات. والسبب الأساسى فى شعور جماعة إخوان ليبيا بالقوة وتحديها لإرادة غالبية الليبيين يعود إلى افتقار هذا البلد منذ البداية لجيش وشرطة قويين. ولهذا فإن قدرة الشعب الليبى على الحسم ربما ستتأخر قليلا وسيسقط مزيد من الضحايا وستتواصل أعمال التخريب، إلى أن يتمكن حفتر والبرلمان من إعادة بناء الجيش والشرطة، لحماية الشعب، كما حدث فى مصر فى ثورة 30 يونيو. ولهذا فإن مصر، رغم ما فيها من مشاكل، تعد أكثر تماسكا، وتمكنت بفضل الجيش القوى من إنقاذ المصريين من بطش المتطرفين. وبينما يواصل جيش حفتر عملياته لطرد المتشددين، يبدو أن حوار جنيف بدأ يحقق نتائج إيجابية يمكن أن تتسبب فى عزل متطرفى الإخوان عن باقى الكتل الجهوية والقبلية فى المناطق المحيطة بطرابلس. فقد وافق على المشاركة فى هذا الحوار أطراف من مدن مثل مصراتة والزاوية وطرابلس وغيرها من المدن التى كان يعتمد عليها الإخوان فى حروبهم. ويمكن أن يؤدى مؤتمر جنيف إلى التمهيد للمصالحة بين الحكام الجدد وأنصار القذافي، وهذا فى حد ذاته سيمثل ضربة قاضية لجماعة الإخوان. كما خرجت أخيرا أصوات من داخل “قوة فجر ليبيا” وهى الذراع العسكرية لتجمع الإخوان والمتطرفين، تتساءل عن نهاية طريق الاحتراب والتشدد، وتحذر من خطر استمرار هيمنة الجماعة على الميليشيات وأن الحل لا يمكن أن يكون إلا بالحوار من تحت سقف البرلمان الذى يمثل الشعب.