شهدت العلاقات الأمريكية - الإسرائيلية أجواء مشحونة خلال الأيام الماضية، بسبب أزمة دعوة رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نيتانياهو لإلقاء خطاب أمام الكونجرس الأمريكى بشأن إيران يوم 3 مارس المقبل بناء على دعوة من الجمهوريين، ولكن دون إخطار البيت الأبيض ولا الخارجية الأمريكية. وتسبب هذا الانتهاك البرتوكولى الواضح فى إعلان الرئيس الأمريكى رفضه لقاء نيتانياهو خلال زيارته المقبلة لواشنطن، متعللا بأنه لا يرغب فى إعطاء دعم لأى مسئول خارجى تستعد بلده لإجراء انتخابات، فى إشارة إلى الانتخابات الإسرائيلية التى تجرى فى مارس المقبل أيضا، وهو الحذو نفسه الذى حذاه وزير خارجيته جون كيرى، الذى بدأ هو الآخر يفقد صبره تجاه "الألاعيب" السياسية التى يمارسها رئيس الوزراء الإسرائيلى بالتعاون مع الأعضاء الجمهوريين المسيطرين على الكونجرس.وكانت الأزمة قد اندلعت فور إعلان الجمهورى جون بوينر رئيس مجلس النواب الأمريكى فى تغريدة على "توتير" يوم 21 يناير الحالى، وبشكل مفاجىء، أنه وجه هذه الدعوة بالفعل إلى نيتانياهو، والذى أكد المتحدث باسم مكتبه أنه قبلها ورحب بها، فى حين أن الطرفين أو حتى أحدهما لم يرجع إلى البيت الأبيض لإطلاعه والتنسيق معه بشأنها، مما أثار انزعاج أوباما وكيرى، مما دفع جون إيرنست المتحدث باسم البيت الأبيض إلى القول إن الدعوة، ومن ثم القيام بالزيارة على هذا النحو، تعد مخالفة لقواعد البروتوكول المعتمدة والمعمول بها فى البلاد، والتى تنص على أن يتصل زعيم الدولة الذى ينوى زيارة الولاياتالمتحدة بالبيت الأبيض للتنسيق معه فى شىء من هذا القبيل. وبما أن ذلك لم يحدث، فقد اعتبرت الإدارة الأمريكية هذه الخطوة بمثابة إهانة لها وعدم اكتراث بها، فضلا عن تخوفها من إمكانية تفسيرها على أنها تدخل خارجى فى النقاش الأمريكى الداخلى حول الملف النووى الإيرانى، وهى النقطة التى بسببها رفض كيرى لقاء نيتانياهو، وبخاصة بعد تصريح نقلته صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية عن أحد مسئولى المخابرات الإسرائيلية قال فيه إن فرض عقوبات جديدة ضد إيران الآن يعد "بمثابة إلقاء قنبلة يدوية على عملية المفاوضات معها"، وهو ما لا يعجب واشنطن بطبيعة الحال. وردا على غضب البيت الأبيض لما حدث، أكد بوينر أن دعوة الجمهوريين لنيتانياهو لإلقاء خطاب أمام الكونجرس فى هذا التوقيت تأتى من قبيل تخفيف الأعباء الملقاة على عاتق رئيس الوزراء الإسرائيلى، وذلك من خلال تمكينه من القيام برحلة واحدة للولايات المتحدة بدلا من اثنتين، يحرز خلالها، وقبل موعد الانتخابات العامة المقرر إجراؤها فى بلاده فى 17 مارس المقبل، هدفين فى وقت واحد، أولهما حضور اجتماع الكونجرس للتحدث عن "التهديدات الخطيرة التى تشكلها إيران" على أمن الولاياتالمتحدة، وثانيهما إلقاؤه كلمة أمام مؤتمر لجنة الشئون العامة الأمريكية الإسرائيلية "إيباك"، جماعة الضغط المؤيدة لإسرائيل، فى الفترة ما بين الأول والثالث من مارس كذلك. وأضاف بوينر أن هذا هو السبب الذى حمل الجمهوريين على تعديل موعد خطاب نيتانياهو بالكونجرس إلى 3 مارس بدلا من 11 فبراير المقبل.أما نيتانياهو نفسه، فدافع عن قراره قبول دعوة الكونجرس باعتباره جزءا من استراتيجية بلاده المناهضة لإيران نووية، زاعما أن عليه التزاما أخلاقيا يتمثل فى أن ينتهز كل فرصة تسنح لإثارة قضية تشكل خطرا فتاكا على تل أبيب، وأكد أن أهم أولوياته هى حث الولاياتالمتحدة والقوى الأخرى على عدم التفاوض بشأن اتفاق نووى إيرانى يمكن أن يعرض إسرائيل للخطر، ولذا، فإنه سيذهب إلى أى مكان تتم دعوته إليه "لعرض موقف بلاده وحماية مستقبلها ووجودها"، على حد قوله.ولا شك فى أن ثمة أسبابا خفية دعت أوباما لرفض لقاء نيتانياهو، أبرزها أن الرئيس الأمريكى بات يدرك أن الجمهوريين بدأوا يكيدون له ويتصرفون بمزيد من الحرية، وبعيدا عن أجواء التشاور والتنسيق مع إدارته، خاصة عقب فوزهم فى انتخابات التجديد النصفى للكونجرس فى نوفمبر الماضى، فأراد أن يعاقبهم ويعاقب ضيفهم بامتناعه عن لقائه، حتى لا يتسنى لأى من الزعماء الإسرائيليين لاحقا كسر القواعد البروتوكولية مرة أخرى مع الإدارة الأمريكية، ويعضد هذا الطرح أن أوباما كثيرا ما هدد باستخدام الفتيو ضد قرارات الكونجرس التى يصدرها الجمهوريون خاصة منذ نوفمبر الماضى. والسبب الثانى يتمثل فى إدراك أوباما للعبة حزبية تتمثل فى إمكانية إبرام صفقة يصوت الجمهوريون بموجبها على حزمة عقوبات جديدة على طهران مقابل تحفيز نيتانياهو للوبى اليهودى على دعم المرشح الجمهورى فى انتخابات الرئاسة الأمريكية المزمع إجراؤها نهاية العام المقبل، فأراد أوباما من خلال امتناعه عن لقاء نيتانياهو أن يضرب عصفورين بحجر واحد، أولهما حرمانه من الحصول على بعض الامتيازات كمساعدات مالية أو عسكرية، ربما كان من المحتمل أن يحصل الأخير عليها فى حالة زيارته للبيت الأبيض، والثانى إرسال رسالة ضمنية لقادة إسرائيل فحواها عدم الانسياق التام وراء الجمهوريين مهما كان، ويعضد هذا الطرح ما أكدته صحيفة "يديعوت أحرونوت" بقولها إن إلقاء هذا الخطاب - الذى انتقدته صحيفة "نيويورك تايمز” الأمريكية فى افتتاحيتها فى 24 يناير الحالى - يعد بمثابة خطوة معادية للرئيس الأمريكى، وأنها تستهدف إقناع الكونجرس بفرض عقوبات جديدة على إيران فى وقت تستمر فيه المفاوضات مع طهران فى هذا الشأن. وما يدل على أن دعوة الجموريين لنيتانياهو محض نكاية للديمقراطيين وجنى مصالح حزبية وبامتياز، أن تجاهل الجمهوريين للديمقراطيين فى تلك القضية لم يكن مقتصرا على عدم إبلاغ الإدارة الأمريكية، وحدها بل تعداه ليشمل أيضا زملاءهم من الحزب الديمقراطى فى الكونجرس، وفى مقدمتهم هارى ريد زعيم الديمقراطيين بمجلس الشيوخ الأمريكى، الذى أكد بدوره أن زعماء الجمهوريين بالكونجرس لم يستشيروه بشأن دعوة نيتانياهو، إلا أنه فى النهاية أكد حضوره واستماعه لكلمة رئيس الوزراء الإسرائيلى. ورغم أن قرار أوباما بعدم لقاء نيتانياهو قد يتم تفسيره بأنه تجاهل للقيادة السياسية الإسرائيلية، التى دائما ما يتم السماح لزعمائها بإجراء محادثات مع الرؤساء الأمريكيين بالبيت الأبيض، خاصة خلال زياراتهم لواشنطن، لا سيما وأن إلقاء زعماء إسرائيليين خطابا فى الكونجرس لا يعد السابقة الأولى من نوعها هذه المرة، بل إن هناك واقعتين أخريين أولاهما فى 1996، والثانية عام 2011، ورغم إمكانية كون القرار نكاية وتحديا للجمهوريين من عدمه، ورغم أشياء كثيرة أخرى، فإن القرارات الرسمية والظاهرية لا تعبر غالبا عن حقيقة لا يمكن إنكارها، وهو أن العلاقات الأمريكية الإسرائيلية ستبقى "سمنا على عسل" فى كل الأحوال، بغض النظر عن هذه "التمثيلية" الجديدة، التى تضاف إلى تمثيلية سابقة بين كيرى ونيتانياهو العام الماضى، زعموا أنها أزمة دبلوماسية بين البلدين "الحبيبين". وغدا يأتى نيتانياهو للكونجرس ليمارس الدعاية الانتخابية لحزبه علنا قبل الانتخابات، وسواء رضى أوباما أم لم يرض، فسيأتى الرئيس الأمريكى المقبل بعد رضا اللوبى اليهودى، ليعلن الكلمة الشهيرة، وهى أن أمن إسرائيل جزء لا يتجزأ من أمن الولاياتالمتحدة.