قدمت الأرجنتين نموذجا أكثر تحضرا من دول الحلفاء عندما نصبوا محاكمات استثنائية وغير عادلة لقادة النازية فى نورنبرغ الشهيرة، أو المحاكمات العسكرية فى اليونان أو محكمة الغدر فى مصر بعد ثورة 23 يوليو أو محكمة مبارك والعادلى بعد ثورة يناير التى لم تمتلك أى دليل أو حقيقة. لم تكن العدالة الأرجنتينية انتقامية كما فى المحاكمات الاستثنائية أو صورية كما فى المحاكمات التى لا تستند إلى أدلة، بل كانت محاكمات عادلة من خلال القضاء الطبيعى مستندة على حقيقة، لتوجه رسالة الى الشعب أن القضاء يحاكم الماضى من أجل تأمين المستقبل، وأن النظام والمجتمع كتبا الحقيقة لضمان عدم تكرار أخطاء الماضى أو كما كان شعار لجنة الحقيقة «Nonca Mas» «لن يحدث مرة أخرى». فقد ولد مصطلح العدالة الانتقالية فى الأرجنتين وبالتحديد فى عام 1983 عندما شهدت الدولة نهاية عهد سلطوى استمر لسبع سنوات اتصفت بالعنف الشديد فى مواجهة المعارضة. وظهرت تساؤلات حول كيفية التعامل مع كم كبير من الضحايا بين مختفين تبين بعد ذلك أنهم قتلوا وبين معتقلين تعرضوا للتعذيب. كانت الخبرة الدولية السابقة هى المحاكمات الاستثنائية سواء الثورية أو العسكرية. لكن الأرجنتين اختارت طريق العدالة الانتقالية، ليصبح بعد ذلك منهجا لدول عديدة تم تطبيقه بتوجهات مختلفة وفقا لرؤية كل دولة وخصوصيتها. بدأ الصراع فى بداية عقد الاربعينيات من القرن الماضى عندما ظهرت الحركات اليسارية المطالبة بالعدالة الاجتماعية. وظهر «خوان بيرون» ونادى بأفكار يسارية عن حق الفقراء وإعادة توزيع الدخل وزادت شعبيته بين الطلبة والعمال، حتى وصل الى الرئاسة فى 1946 وتشكل التيار البيرونى. ثم بدأ الصراع بين البيرونية وقوى اليمين المتمثل فى الجيش والكنيسة والأحزاب اليمينية وطبقة أصحاب الشركات. ومنذ ذلك التاريخ لم تشهد الأوضاع السياسية أو الاقتصادية استقرارا يذكر فى الأرجنتين بسبب هذا الصراع وتبادل الطرفان أعمال العنف ولكن فى نطاق محدود ولم يصل الى الحرب الأهلية. الحرب القذرة وبعد وفاة بيرون وبالتحديد فى 1976 قررت قوى اليمين ان تنقلب على الديمقراطية. ولكن هذه المرة قرر النظام السلطوى الجديد ان ينتهى من هذا الصداع الى الأبد، فوضع خطة للتخلص من اليسار وانصاره تماما. قام بعمليات اعتقال واسعة، انشأ عشرات من مراكز الاعتقال فى كل المدن، ألغى الأحزاب، زيف الاعلام وجعله يقول للشعب انه يحارب الإرهاب، اخذ فتوى من رجال الكنيسة بأنه يحارب الخطر الأعظم على المسيحية وعلى الأمن القومى للبلاد. تلقى دعما فنيا من الولاياتالمتحدة التى كانت تقوم بدور كبير لمحاربة اليسار الناشئ فى القارة اللاتينية فى اطار حربها الباردة مع الاتحاد السوفيتى. تدربت قوات أمن النظام السلطوى على يد عسكريين فرنسيين وأمريكيين على محاربة المعارضة باعتبارهم أعداء الوطن ونقل الفرنسيون لهم خبرتهم فى استجواب وتعذيب المعتقلين ولذلك سميت فترة الحكم السلطوى فى الأرجنتين ب«الحرب القذرة» نسبة للنسخة الفرنسية فى الجزائر فى خلال معركة الاستقلال. وظل الوضع كذلك 7 سنوات حتى انتهى النظام السلطوى بعد هزيمته العسكرية امام الجيش البريطانى فى جزر الفوكلاند. التطور الانتقالي جاءت الانتخابات الأولى براؤول الفونسين رئيسا للارجنتين، وقد تعلقت عليه آمالا عريضة لتحقيق العدالة ومحاكمة النظام القديم على جرائمه. وبالفعل اصدر الرئيس أوامر بتشكيل اللجنة الوطنية «CONADEP» وقد كانت التجربة الأولى فى العالم لانشاء لجنة كشف حقيقة ما جرى من تجاوزات فى ظل النظام السابق. وانتهت اللجنة بتقرير مفصل تم تسليمه للرئيس فى لحظة تاريخية ثم نشره ليقرأه الشعب كله. ثم بعد ذلك تشكلت محكمة «Junta Trial» وهى أول مرة يحاكم فيها القضاء التقليدى قيادات النظام السابق كلهم. وصدرت احكام بإدانتهم. وبدأ القضاء الارجنتينى يتلقى دعوات لمحاكمة عدد اكبر من المسئولين فى مناصب أقل وهو ما يعنى اتساع نطاق المحاكمات، الأمر الذى أدى الى اندلاع بعض اعمال العنف من بقايا النظام السابق. وتحت مخاوف الانزلاق الى حالة من الانفلات الامنى قرر الرئيس إيقاف مسار المحاكمات واصدر قوانين بهذا المعنى، وهو ما مثل خيبة أمل كبيرة للحقوقيين وعائلات الضحايا. ثم خلفه الرئيس كارلوس منعم لفترتين متتاليتين طوال عقد التسعينيات. وقد كان لمنعم توجه اكثر يمينيا وقريبا من الولاياتالمتحدة ولم يرغب فى إعادة مسار المحاكمات، بل أصدر قوانين بالعفو عن الجميع. وظهرت محاولات لهدم أكبر معتقلات النظام السابق (إسما ESMA) وبناء حديقة تحمل اسم المصالحة كعنوان المرحلة. التعاقب الرئاسي فى عام 2001 مرت البلاد بأزمة اقتصادية كبيرة أظهرت فشل التوجه الاقتصادى المتحالف مع الولاياتالمتحدة لنظام منعم وخرجت مظاهرات كبيرة وتعاقب أربعة رؤساء فى عامين. فى هذا العام استطاعت المحكمة العليا ان تصدر حكما بإلغاء قوانين العفو التى أصدرها منعم لعدم دستوريتها. ثم جاءت انتخابات 2003 ونجح فيها الرئيس نستور كريشنر ليكون بمنزلة أول رئيس يحكم بعد التحول الديمقراطى قادم من قلب التيار البيرونى اليسارى المعارض. وهنا، تغير المشهد تماما وبدأت المحاكمات وتسارعت وتيرتها. وأخيرا وبعد نضال طويل عادت الارجنتين لاستكمال مشوار العدالة عن طريق القضاء الطبيعى العادل للمتهمين والضحايا، القضاء القائم على الحقيقة الموثقة والعمل الدءوب والمستمر الى الآن فى البحث والتقصى. وتحولت ESMA الى متحف للذكرى، تسير بداخله لترى وجوه الضحايا مرسومة على جدران المبنى. وقد تحولت مبانيه الداخليه الى أماكن ومكاتب لمنظمات حقوق الانسان وغرف لتخزين الوثائق والأدلة، ومتاحف فنية وعروض مسرحية وغنائية كلها تتحدث عن حفظ ذاكرة الأمة. دروس الأرجنتين الخبرة الأرجنتينية مليئة بالتفاصيل التى يمكن استخلاص عشرات الدروس من بين سطورها على مدى 38 عاما، ومنها على سبيل المثال وليس الحصر: (*) الإرادة السياسية تعد إشارة الانطلاق. دون إرادة سياسية للنظام لا يمكن أن يكون هناك مسار صحيح للعدالة الانتقالية على الاطلاق. على الرغم من ان الفونسين الرئيس الأول بعد سقوط النظام السلطوى لم يتمكن من اكمال مسيرة العدالة بسبب تهديدات بقايا النظام القديم، الا انه كان يمتلك إرادة حقيقية لذلك شهد عصره اصدار تقرير لجنة CONADEP الذى يعد المرجع الرئيسى لجميع المحاكمات الحالية. كما أن رغبة نستور كريشنر هى ما أعطت الدفعة القوية لإعادة فتح باب المحاكمات بعد أن مر على الارجنتينيين ما يزيد على 15 عاما ظن الكثيرون انهم لن يشهدوا هذا المشهد من جديد. (*) المجتمع المدنى وأهالى الضحايا الفاعل الرئيسى فى تحقيق العدالة. تعد تجربة العدالة الأرجنتينية هى قصة نجاح وتفرد للمجتمع المدنى، لا يسع هذا المقال لذكر جميع جوانب تميزه. لكن باختصار شديد شهدت الارجنتين حتى خلال العهد السلطوى عملا فدائيا لمنظمات صغيرة (لم تكن معترفا بها قانونا فى ذلك الوقت) لجمع أسماء الضحايا وبياناتهم، ووزعوا الوثائق على منازلهم خشية من النظام. وبعد التحول الديمقراطى استمروا بعملهم واختلفت تخصصاتهم بين الاهتمام بالتعديلات الدستورية والقانونية لتضمين المواثيق الدولية لحقوق الانسان داخل الدستور. وبين التخصص فى مجالات الطب الشرعى وتحليل الأدلة. وآخرون استمروا فى التواصل مع ذوى الضحايا من كل ارجاء الوطن. عندما جاءت اللحظة السياسية المناسبة فى 2003 كان كل شيء جاهزا لبداية محاكمات عادلة قائمة على كم هائل ومنظم من الأدلة والمعلومات. (*) المرأة وسياسة النفس الطويل. عندما شرع النظام السلطوى فى خطف المعارضين بدأ المواطنون يشعرون بأن شيئا خطيرا يحدث لكنهم التزموا الصمت، سواء الاعلام والكنيسة والمجتمع. ولكن 14 سيدة ممن تم اختطاف ابنائهم خرجن الى ميدان «بلازا دى مايو» فى العام الأول للديكتاتورية، ولان القانون كان يحرم التظاهر أو الاعتصام فقمن بالسير حول الميدان وهن يرتدين طرحة بيضاء قصيرة على رؤوسهن بعد ان طرزت عليها كل واحدة اسم أبنها او أبنتها المختفية. وظللن يطفن فى الميدان أسبوعيا. وازدادت اعدادهن تدريجيا وظلوا مواظبين على هذا. وهنا، تشكلت أول معارضة ضد النظام السلطوى الذى حل الأحزاب ولم يسمح بعمل المنظمات الحقوقية. لكن «جمعية أمهات مايو» استطاعت ان تنتزع شرعية واقعية وليس قانونية لم يستطع احد ايقافها إلى اليوم. وانبثق منها بعد ذلك «جمعية جدات مايو» والتى نشأت بعد نهاية الحكم السلطوى وبعد ان تأكدت الأمهات ان بناتهن أو زوجات أولادهن قتلن واصبحن يبحثن عن 500 طفل كانوا اجنة فى بطون هؤلاء الشابات وقت اعتقالهن. وقد تمكنوا بالفعل من إيجاد 116 منهم اصبحوا رجالا ونساء شارفوا على سن الأربعين. ومازال من تبقى منهن احياء مستمرين فى البحث عن بقية الأحفاد. (*) ما لا يدرك كله لا يترك كله. اللافت للنظر ان مجتمع المدافعين عن العدالة تعلموا انه ان لم يكن الظرف السياسى مواتيا لفتح كل القضايا كما يرغبون، فإنه يجب البحث عما هو ممكن حتى وان كان منفذا صغيرا. على سبيل المثال وليس الحصر فى فترة التسعينيات وبعد ان منح الرئيس منعم عفوا لجميع المحكوم عليهم، ظهرت فكرة البحث عن متهمين اخرين لم يمثلوا امام المحكمة الأولى ومن ثم لم تصدر ضدهم احكام وهكذا تحايلوا على قوانين العفو. (*) متى يكون القضاة أداة لتحقيق العدالة وليس اهدارها. فى مرحلة النظام السلطوى لجأت بعض العائلات للقضاء بهدف انصافهم. لكن القضاء لم يفعل، بل على العكس كان القضاء أحيانا يُستخدم أداة لمحاكمة المعارضة اليسارية بتهمة الإرهاب والتخريب. لكن بعد التحول الديمقراطى لم يحدث ما يمكن تسميته تطهير المؤسسة القضائية، بل على العكس ظل القضاة فى مناصبهم وحكموا فى المحاكمات الأولى فور سقوط النظام «Junta Trial» والى الآن لم يتم استحداث هيئات قضائية من خارج المؤسسة التقليدية. الخبرة الأرجنتينية تقول انه يجب اصلاح القوانين والدستور بما يضمن استقلال القضاء وعدم تبعيته للسلطة التنفيذية وهو ما تم فى اطار إصلاح مؤسسات الدولة. أما القاضى أى قاض هو فى حاجة لامتلاك أدوات تمكنه من انفاذ العدالة وهى لم تكن متوافرة من قبل. هذه الأدوات تمثلت في، أولا: الأدلة والاثبات من خلال الأوراق والوثائق وهو الامر الذى بدأ بتقرير CONADEP ثم استمر بعد ذلك من خلال مجهود جمعيات عائلات الضحايا ومنظمات المجتمع المدنى ومحققين النيابة. ثانيا: تغيير القوانين بعد الاعتراف بالمواثيق والقوانين الدولية لحقوق الانسان فى الدستور. ثالثا: الرأى العام الضاغط فى اتجاه محاكمة النظام السابق. وهى الأدوات المتوافرة وبقوة لدى قضاة الارجنتين اليوم مما يمكنهم من تحقيق عدالة اهدروها هم انفسهم فى زمن سابق. وثائق الحقيقة التجربة الأرجنتينية ليست قصة انتقام من نظام سلطوى سقط، بل هى قصة تحقيق العدالة حتى بعد مرور زمن طويل. تقول إحدى أمهات الضحايا: «نحن لم نكن نسعى لتحقيق حلم بل كنا نناضل من اجل تحقيق العدالة». حقا لم يكتف المهتمون بالعدالة سواء من داخل عائلات الضحايا او من بين المثقفين ومنظمات حقوق الانسان ومراكز الفكر والاكاديميين والسياسيين، لم يكتفوا بالحلم لأن من يحلم ولا يتحقق حلمه يكون عُرضة لليأس. لكن من يناضل يظل يمتلك القوة والثبات والقدرة على الاستمرار حتى وان كان على نطاق ضيق فى فترات انحسار الإرادة السياسية ثم على نطاق أوسع فى ظل ازدهار إرادة العدالة. وقد استطاعت الارجنتين ان تكتب جزءا مهما من تاريخها دون تزييف او تشويه، وادمجت فى مناهجها التعليمية احترام حقوق الانسان. واهتمت بأن تجعل الأجيال الصغيرة ترى وثائق الحقيقة ليكونوا هم بعد اصلاح القوانين والمؤسسات الضمانة الحقيقية لعدم تكرار أخطاء الماضى فى المستقبل.