هى بالفعل (خضة) كلب وليس عضة كلب، ولا يوجد ثمة خطأ مطبعى فى العنوان كما قد يتبادر فى ذهن القارئ، أما وقائع هذه (الخضة) كما رواها لى سائق التاكسى المصرى الأصل النمساوى الجنسية محمد المندى الذى أوكلت إليه مهمة استقبالى فى مطار فيينا عندما دعيت لإلقاء محاضرة هناك عن السينما المصرية مع عرض فيلمى «خريف آدم» فى شهر مارس عام 2007، كان محمد المندى قد واجه موقفا قانونيا عصيبا من وجهة نظره، وغريبا بالنسبة لي، إذ إنه مثل أمام القضاء النمساوى متهما بأنه (خض) كلبة!!!... أما كيف حدث ذلك؟!، أثناء قيادته للتاكسى الذى يعمل عليه فوجئ بكلبة تعبر الطريق، فتوقف فجأة على مبعدة سنتيمترات قليلة منها مما أدى إلى (خضتها)، يقول محمد: «لم أكن أعرف أن الكلبة قد ولدت حديثا ولذا فإنها تعبر الطريق بتمهل وإلا لراعيت ذلك».، المهم فى الأمر أن صاحب الكلبة قرر أن يقاضى محمد المندى لأنه (خض) كلبته، وهكذا وجد نفسه مستدعى للمحاكمة وصدر الحكم عليه بدفع ألفى يورو لصاحب الكلبة، واستأنف محمد الحكم فتم تخفيض التعويض إلى خمسمائة يورو فقط لا غير، رفع محمد إبهامه إلى أعلى معربا عن إعجابه بقاضيه وهو يقول: «كان قاضى كده... زار مصر وقضى وقتا جميلا فى شرم الشيخ وعلشان كده خفض التعويض»... وهكذا تم تعويض الكلب عن خضته بتراض بين جميع الأطراف، وهو ما يطلق عليه عادة »النهاية السعيدة«... وأخذت أفكر ماذا لو سن المشرع المصرى قانونا لا يعوضنا عن مجرد (خضة) أو حتى مجموعة (خضات)، وإنما عن حالة الهلع والرعب التى نعيشها على الطرق السريعة، حيث تشكل حوادث الطرق بمصر أعلى نسبة حوادث فى العالم كله، أو عن ارتفاع معدلات الإصابة بالسرطان بسبب المبيدات والمواد المسرطنة التى سمح رجال الرئيس الأسبق حسنى مبارك بدخولها إلى مصر، أو عن فزع الفتيات والنساء من التحرش بهن فى الطريق العام، أو الانحدار الشديد فى مستوى التعليم العام بجميع مراحله وحتى الجامعي، أو عن... وعن... وعن... لو حدث ذلك لنفدت ميزانية مصر كلها فى التعويض عن (خضتنا).
وماذا لو قرر العالم أن يدفع تعويضات لعدد من البلدان العربية وبشكل خاص سوريا والعراق وليبيا واليمن، وأهلها يسقطون صرعى بالآلاف، ويتم تشريدهم بمئات الآلاف ما بين تنظيمات إرهابية مسلحة مثل «داعش» و«جبهة النصرة» وغيرها من جانب، وجيوش نظامية وميليشيات عرقية وطائفية من جانب آخر؟.. لو حدث ذلك فلن تكفى أموال العالم كله فى تعويض أهلها عن حالة الرعب والفزع القائمة هناك... ولكن من قال إننا ندخل فى حسابات ما يسمى بالعالم الأول على المستوى الإنساني، إنهم يتخذون حججا ومبررات شكلية للتعامل معنا بصورة مختلفة تماما، ويجدون بيننا ما يساعدهم على ذلك... فلأنه وبحكم القانون يمنع التعذيب على الأرض الأمريكية التى هى فى الواقع نصف قارة من قارات العالم الخمس، يقوم الأمريكيون بممارسة التعذيب فى جوانتانامو التى هى جزء من الأرض الكوبية حيث يقع معسكر التعذيب الشهير.
لقد أحدث تقرير الكونجرس حول أساليب التعذيب الوحشى التى انتهجتها المخابرات المركزية الأمريكية (سى آى إيه) بعد هجمات 11 سبتمبر 2001، حالة من الصدمة والغضب فى العالم كله، وشكل نوعا من الصدمة الأخلاقية للعالم المتقدم شرقه وغربه، وتزايدت الدعوات خارج الولاياتالمتحدة للمطالبة برفع دعاوى قضائية.
وعلى الرغم من أن ضحايا هذا التعذيب الوحشى ينتمون إلى عدد من البلدان العربية، إلا أننا لم نحرك ساكنا وكأن الأمر لا يعنينا، ولعل بعضنا اعتبره مجرد (خضة) صغيرة لا تقارن بالفزع الأكبر الذى نعيشه.
ومما يسترعى الانتباه أن تلك الجريمة الشنعاء قد تم تبريرها، وأوجد مرتكبوها المبررات القانونية والنفسية للقيام بها، حيث قام المستشاران القانونيان بوزارة العدل جون بوو وجاى بايبى بالموافقة على التعذيب بحجة أن الوسائل المستخدمة لا تتسبب فى تعطيل عضو من أعضاء الإنسان أو تتسبب فى إعاقته أو وفاته (؟!!!)...
أما عالما النفس ومستشارا (السى آى إيه) بروس جيسين وجيمس ميتشل فلقد أوصيا بتدريب عناصر فى الجيش الأمريكى على وسائل التعذيب كى يتم استخدامها مع المعتقلين بحجة مقاومة الإرهاب، ولحقت بهم كونداليزا رايس التى شغلت منصب مستشار الأمن القومى الأمريكى فى الولاية الأولى لبوش الإبن، بالموافقة على طريقة الإيهام بالغرق ضد أبو زبيدة، الذى كان أول من تعرض للتعذيب بهذه الطريقة 83 مرة على الأقل خلال اعتقاله فى جوانتانامو لثمانى سنوات، بينما تعرض خالد شيخ محمد الذى كان واحدا من مخططى هجمات 11 سبتمبر 2011 للإيهام بالغرق أكثر من 138 مرة خلال شهر واحد بعد اعتقاله فى باكستان عام 2003... عمليات التعذيب المسموح بها إلى جانب الإيهام بالغرق وهو أكثر الأساليب وحشية، الحرمان من النوم لعدة ساعات تصل أحيانا إلى 180 ساعة مما أصاب بعض المعتقلين بالهلوسة، والصفع على الوجه، وتعرية المتهمين عنوة، والتعريض لدرجة حرارة منخفضة، واستخدام المياه الباردة، والسجن فى غرف بالغة الضيق، وتقييد الكفين إلى ما فوق الرأس، وتذنيب المعتقلين بالوقوف أمام الحائط...
وإذا ما تجاوز التعذيب هذه الحدود، فإن الحماية الشكلية للسلطة الأخلاقية التى تم تقويضها تقتضى اللجوء إلى ما يسمى التعذيب بالوكالة، وهو أن تقوم دولة تسمح بالتعذيب على أرضها بالقيام بهذه المهمة متجاوزة الحدود المسموح بها، وإذا كان من بين هذه الدول إحدى عشرة دولة من الدول العربية البالغ عددها اثنتين وعشرين دولة، أى نصف الدول العربية بالتمام والكمال، فأى اعتبار سيوضع (لخضة) سكانها؟!، وإذا كانت هذه الدول تسمح بتعذيب مواطنيها نيابة عن الولاياتالمتحدة على طريقة «شعبى وانا حرة فيه»، فما هى أهمية أن يشعر مواطنوها بأية (خضة) من أى نوع؟!.. بل لعل (الخضة) تشكل نوعا من الترف قياسا على حالة الفزع اليومى التى يعيشونها، واستقرار التعذيب كأسلوب ممنهج ومنظم فى عدد من البلدان العربية، فهل يملك مواطنو هذه البلاد التى تعذب مواطنيها بتوكيل من المخابرات الأمريكية أية حقوق من أى نوع تجاه العالم؟!!... وهل اختلط الأمر بحيث اعتبرت هذه الدول أن الحصول على الوكالة بالتعذيب هو نوع من التوكيلات التجارية (للماركات) الأمريكية الشهيرة مثل «ماكدونالد» و«كينتاكي» وغيرها، أم كانت خضوعا وإذعانا لأوامر السيد الأعظم حيث يتصور حكام هذه الشعوب أن بقاءهم فى الحكم مرهون برضاء الولاياتالمتحدةالأمريكية عنهم وليس بإرادة شعوبهم؟!.. حتى إذا ما جاء الربيع العربى متمثلا فى ثورات عدد من الشعوب العربية المقموعة ضد سلطاتهم الاستبدادية المطلقة، سارعوا مع أتباعهم بالتهليل بأنه (أى الربيع العربي) مؤامرة دبرتها الولاياتالمتحدة، فحسب تصوراتهم فإن أى شيء وكل شيء يتم بقرار منها، وليس بإرادة شعوب تنفض عن نفسها تراثا من القمع والتسلط وتزوير الإرادة الشعبية فى اختيار من يحكمها، وفى اختيار مجالسها النيابية... أما نحن فى مصر فنختص بالقدر الأكبر فى عملية التعذيب بالوكالة، حيث يصف التقرير مصر بأنها الدولة التى استقبلت أكبر عدد من المعتقلين الذين أرسلتهم الولاياتالمتحدة للتعذيب بالوكالة، كما اعترف أحمد نظيف رئيس مجلس الوزراء الأسبق بأن الولاياتالمتحدة أرسلت عام 2005 ما بين 60 و70 شخصا إلى مصر للتحقيق معهم، ورصد التقرير أنه منذ 11 سبتمبر 2001 أرسلت الولاياتالمتحدة إلى مصر، وبصورة استثنائية، العديد من المعتقلين أشهرهم محمد عمر عبد الرحمن، وأحمد عجيزة، وعلى محمد عبد العزيز الفخيرى (ابن الشيخ الليبي)، وممدوح حبيب، وعبد السلام الحلة، ومحمد سعد إقبال مدني، وسيف الإسلام المصري، وأبو عمر (حسن مصطفى أسامة نصر)، كما يرصد التقرير السجون المصرية التى استخدمت فى احتجاز واستجواب وتعذيب المعتقلين وتمركز معظمها فى منطقة طرة (السجن والاستقبال والمزرعة وملحقها والليمان ومستشفاه) بالإضافة إلى سجن العقرب الشديد الحراسة..
لقد حان الوقت لشعب قام بثورتين كبيرتين فى أقل من عامين ونصف عام، أن يطمح إلى وجود سلطة أخلاقية فى الحكم تضمن تنفيذ الشطر الثانى من شعار ثورة 25 يناير وهو (عدالة اجتماعية وكرامة انسانية) إضافة إلى شطره الأول بالطبع (عيش - حرية)، وأول شروط الكرامة الإنسانية هو القضاء على ظاهرة التعذيب التى توجد فى أى نظام كان...
وحسب مصادر البيت الأبيض يرى الرئيس الأمريكى باراك أوباما أن التقرير يفوض من السلطة الأخلاقية للولايات المتحدة، وأن نشر التقرير بما يحتويه من وصف لأساليب الاستجواب الوحشية، هو خطوة مهمة لاستعادة تلك الثقة»... فماذا سيفعل هؤلاء الحاصلون على توكيل التعذيب الأمريكى فى مصر، والذى لم ينبس أحد منهم بشفة ليدفع عن نفسه هذا العار، وهم بالتحديد الرئيس الأسبق مبارك ورئيس وزرائه نظيف ووزير داخليته العادلي، وهم يواجهون تهمة أكثر فداحة بمراحل من قضيتى غسيل الأموال، والاختلاس فى اللوحات المعدنية للسيارات، التى يحاكم كل من نظيف والعادلى بها.
وفى تقديرى أنه على البرلمان القادم أن يطلب إصدار تقرير بشفافية كاملة عن موضوع التعذيب بالوكالة، وعن جريمة التعذيب بكل وسائله فى سجون مصر عموما، خاصة وأن الدستور الجديد الذى استفتى الشعب عليه يعتبرها جريمة لا تسقط بالتقادم، وإن ينشر هذا التقرير على العالم كله، فهذا النشر سيشكل حائط صد أمام أية سلطة قاهرة مستبدة، وسيشكل حماية للشعب وللوطن، ويعلى من قيمة الإنسان، وهو أمر سيؤثر بالإيجاب فى كل مناحى حياتنا، وخطوة مهمة نوقف بها حالة الفزع اليومى التى تحدث لنا على مستويات متعددة دون أن (يتخض) علينا ولو كلب واحد.