بين مطرقة الإعلام وسندان الإرهاب وحتمية التغيير التى فرضت نفسها على المشهد السياسى والفكري، تقع المؤسسات الدينية وفى القلب منها مشيخة الأزهر الشريف فى مرمى النيران .. وفى ظل ما تشهده الساحة الإعلامية من هجوم انتقادات للأزهر ورموزه ومناهج التعليم ما قبل الجامعي، يؤكد عدد من علماء الأزهر وجود بعض الهنات لدى بعض المنتسبين للمؤسسة الدينية, ويطالبون بإعادة النظر فى مناهج التعليم ما قبل الجامعى حتى لا يكون طلاب الأزهر فى خصومة مع واقعهم المعيش, وعلى الجانب الآخر يرى أساتذة وخبراء الإعلام أن الإعلاميين ورجال الدين على السواء يقعون فى سلسلة من الأخطاء المتبادلة، وأن كثيرا من مؤسسات الدولة تحتاج إلى تجديد وعصرنة. ويعبر عن ذلك الدكتور محمود يوسف، الأستاذ بكلية الإعلام بجامعة القاهرة، قائلا: إنه لا بد أن نوضح أن هجوم بعض وسائل الإعلام الجماهيرية على القيادات الدينية لا يؤخذ على أنه هجوم على تلك الرموز فى حد ذاتها, وإنما هو هجوم على الفكرة الإسلامية، مستغلين فى ذلك بعض التجاوزات من المتحدثين فى المجال الديني. ومن أسباب الهجوم على هذه القيادات التجاوزات التى تحدث من بعض المتحدثين فى المجال الديني, وكذلك قولهم «لا دين فى السياسة ولا سياسة فى الدين», وعدم التزام بعض القيادات الدينية بهذا الأمر, فلم يتطابق فعلهم مع قولهم. ولا شك أن بعض المتحدثين من رموز المؤسسة الدينية يتسمون بالضعف الواضح والبين سواء فى المعلومات الدينية أو فى القدرة على توصيل هذه المعلومات, وثالثة الأثافى تدنى لغة الخطاب بما يشتمل عليه من سباب وشتائم وفحش وتجريح, ويا ليت كل هذا كان غيرة على دين الله ولكن كان لأهداف أخري. كل هذه الأسباب وغيرها هيأت أرضية مناسبة للإعلاميين للتطاول على رجال الدين. وإذا كنا قد ذكرنا بعض الأسباب التى وقع فيها بعض المنتمين للتيار الديني, فليس معنى ذلك أن الإعلاميين براء من المؤاخذة, فقد وقع بعض الإعلاميين فى أخطاء مقابل أخطاء رجال الدين, فلم يلتزموا آداب الحوار, وتحدثوا عن المؤسسة الدينية ورموزها بما لا يليق, فى حين أن القرآن الكريم يبين لنا أدب الحوار فى قوله تعالى (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ) (سورة سبأ:24), وكذلك فى خطاب إبراهيم لأبيه آذر: (يَا أَبَتِ إِنِّى قَدْ جَاءَنِى مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِى أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا) (سورة مريم:43). وقد كان أولى بالإعلاميين إن أرادوا إصلاحا فى الأرض أن يستروا هنات بعض رجال المؤسسة الدينية وأن يردوها إلى المؤسسة, فالنصيحة على الملأ فضيحة. ووجه الدكتور محمود يوسف خطابه إلى الإعلاميين، قائلا: هل تعلم أخى الإعلامى أنك بما تفعله لا تهدم مصداقية أفراد هذه المؤسسة وإنما تهدم المؤسسة ذاتها والأركان التى قامت عليها, ثم إنك دون أن تقصد قد تدعو العوام إلى التشكيك فى كل المتحدثين فى الشأن الإسلامي, كما أنك أيها الإعلامى لست مخولا للحكم على علماء الدين، لأنك لست مزودا بالثقافة الدينية التى تؤهلك للحكم عليهم, ثم إنك بما تفعله من التشكيك فى العلماء ستؤدى بالشباب إلى التحول إلى الأدعياء بدلا من العلماء؛ مما يؤدى إلى شيوع ظواهر الإلحاد والإرهاب والتطرف والدجل والشعوذة والخرافات. أما الدكتور عبد الصبور فاضل، عميد كلية الإعلام بجامعة الأزهر، فيرى أن ما يحدث ظاهرة غريبة وجديدة تطرح تساؤلات غير تقليدية نضع أمامها خطوطا حمراء عما يراد بالأزهر ورموزه, ويضيف قائلا: إنه بدءا من فضيلة الإمام الأكبر لا يمنع النقد, فالنقد مطلوب, لكن الغريب أن النقد أصبح تجريحا مقصودا ومبرمجا وممنهجا فى وقت نحتاج فيه إلى الأزهر والأزهر يحتاج إلى مصر, وليس فى مصلحة مصر أن نهاجم الأزهر بهذه الطريقة؛ لأن الأزهر هو القوة الناعمة لهذه الأمة روحيا وعلميا ودينيا.. ونحن برغم ما حدث نقول لهم مهلا أنتم أهلنا ونحن أهلكم ومصر تحتاجكم والأزهر يحتاجكم, وأنتم فى حاجة إلى الأزهر, وهذا الطريق لن نجنى من ورائه خيرا لمصر .. لن ينفعنا ولن ينفعكم.. أعيدوا حساباتكم من أجل النهوض بمصر وأزهرها, ونحن نرحب بالنقد البناء, وقد التقيت الإمام الأكبر غير مرة وأكد لى أنه يرحب بالنقد. وبدلا من أن يتفرغ هؤلاء الإعلاميون للقضايا التى تشغل المواطنين, وهى جد كثيرة, يتفرغون للنيل من الأزهر الشريف, وكأنهم يحققون أمانى أعداء مصر والإسلام معا. ويقول الدكتور عبدالفتاح إدريس، أستاذ الفقه المقارن بكلية الشريعة، مما لا شك فيه أن كل شيء سواء أكان فكريا أو منهجيا أو غيرهما يحتاج إلى إعادة نظر, وبعض مناهج التعليم ما قبل الجامعى فى الأزهر وفى غير الأزهر يحتاج إلى ثورة عارمة من متخصصين لإعادة النظر فى مناهج التعليم ما قبل الجامعي, وقد لمست هذا بنفسى وأنا طالب فى مراحل التعليم الأزهرى ولمست هذا أيضا وأولادى يستذكرون دروسهم فى مناهج وزارة التربية والتعليم؛ فإن كثيرا من المناهج الأزهرية تحتاج إلى إعادة نظر فى ظل المتغيرات التى حدثت, وإذا كان السلف قد دونوا فكرهم فى الكتب التى يدرسها طلاب الأزهر فإن هذا الفكر إنما جاء انفعالا بواقع حياتهم, وهذا الواقع لا وجود لشيء منه الآن, وكأن هؤلاء الطلاب وهم يدرسون هذه المناهج يعيشون فى واد فإذا ما خرجوا إلى الحياة العامة خاضوا واديا آخر لا يستطيعون بما درسوه أن يطبقوه على الواقع, وهذا أمر لا أتجنى فيه على هذه المناهج فقد درستها ودرستها وألفت فيها وكتبت فيها بحوثا وكان لى رأى نوقش فى المؤتمرات والندوات والمجامع, وليس بعيدا عن هذا مناهج وزارة التربية والتعليم, فإن بعض هذه المناهج ليس من شأنه أن ينشيء أذكياء أو يعلم جهالا, وإنما من شأنه أن يخرج أغبياء؛ لأنه منهج يكرس الغباء والتخلف, ومنتج هذه المناهج نصطدم به فى حياتنا اليومية بما لم يعد خافيا على أحد, فضلا عن المعلومات المغلوطة، ولهذا فإن منظومة التعليم فى مصر وخاصة ما قبل الجامعى تحتاج إلى تضافر الجهود وإعادة النظر فى كل صغيرة وكبيرة يتم تدريسها فى هذه المراحل. ويؤكد الشيخ محمود عاشور, عضو مجمع البحوث الإسلامية ووكيل الأزهر الأسبق، إن الأزهر له مكانة فى نفوس المصريين على مر السنين بمواقف مشهودة تاريخية, والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصي, ولذلك حفر اسمه فى نفوس المصريين والمسلمين فى أرجاء العالم, وهذه المكانة لا يمكن أن يزلزلها شيء, وقد مر على الأزهر مواقف عصيبة على مر السنين واستطاع بتوفيق الله تجاوز هذه المواقف, وإن شاء الله سيتجاوز هذا الموقف كما تجاوز غيره من المواقف, لأن مكانته محفورة فى قلوب المصريين والمسلمين فى كل أرجاء العالم بما يشتمل عليه من نشر صحيح الدين, وما الحملة التى تحملها عليه بعض وسائل الإعلام إلا لأنه حال بين المنابر وفكر التطرف والغلو وتوظيف الدين لأهداف سياسية. ويوضح الدكتور يحيى أبو المعاطى العباسي، أستاذ التاريخ والفكر الإسلامي، أن هناك شبه إجماع على أن كثيرا من مؤسسات الدولة تحتاج إلى تجديد وعصرنة, رغم وجود قلة تنتفع بفساد بعض المؤسسات, ومن خلال التجربة التاريخية والحضارية للأمم نعلم أن كل مؤسسات الدولة تتعرض للضعف لكن ليس معنى هذا إنهاء هذه المؤسسات, فما من إمبراطورية أو دولة إلا مرت بأطوار من القوة والضعف, لكن لا تنتهي، لأن إقامة المؤسسات تحتاج إلى جهود وأعمار وخبرات, ولا يعرف هذا إلا أهل العلم بقوانين التاريخ والحضارة, أما أن يحدث الصدام بين المؤسسات؛ فهذا معناه أن الكل خاسر وليس من بديل إلا الإصلاح من داخل المؤسسات, ونحن كدولة كبرى لها رصيدها الضخم من الإنجازات ومن الدراسات الإصلاحية إذا صدقت النيات يمكن بسهولة أن نعدل وأن نجدد كثيرا مما نحن فيه, أما الاعتماد على أسهل البدائل وهو القضاء على المريض دون علاجه فهذا أمر فيه من قلة النظر ما هو أوضح من الوضوح.