مثل أشجار الصفصاف جاء رحيل الصديق المفكر د. عاطف العراقي عن عمر يناهز77 عاما, واقفا يحاضر طلابه بالمعهد العالي للدراسات الإسلامية. في نهاية رومانسية لعالم قضي ثلثي عمره يدعو إلي إعمال العقل, لمشوار طويل حافل بالعطاء, نسي خلاله نفسه وتفرغ للفلسفة, مثريا الفكر العربي بنحو60 عملا بها امتلأت مكتبة الدراسات الفلسفية. قضي العراقي عمره ناسكا مترهبنا, بناء علي نصيحة أستاذه زكي نجيب محمود, الذي أقنعه أن الزواج يقضي علي فرصة المفكر في التأمل ويعوق تركيزه, لأنها أي الزوجة- سوف تشغله بهموم البيت والحياة عن التأمل, فاستمع للنصيحة وعمل بها مقتديا بأساتذته الكبار من أمثال أبو العلاء المعري. وعلي امتداد نصف قرن من العطاء أثار د.العراقي قضايا عدة, وثار كثير من اللغط حول آرائه تجاه العديد من الموضوعات, إلا أن أكثر ما أثاره من جدل كان مشروعه لتغيير مسمي الفلسفة الإسلامية إلي الفلسفة العربية, مما دفع أساتذة الفلسفة الإسلامية لمهاجمته, وقوله إن عصر الفلسفة العربية انتهي بوفاة ابن رشد, قبل9 قرون, وإرجاعه سبب تأخر فكرنا العربي لعدم عنايتنا بأفكار ابن رشد التي لو طبقت لأصبح حال العرب غير حالهم اليوم ولتقدموا أكثر من أوروبا, لكن تم إهمال موسوعته المعرفية التي جمعت الفقه والطب والفلسفة في فكر شخص واحد, إلا أن أكثر آرائه إثارة للغط كان إرجاعه سبب تخلف العرب إلي اعتمادهم علي فكر الإمامين: أبو حامد الغزالي وابن تيمية, وأدي هذا الرأي إلي منع السعودية له من دخول أراضيها! كما أدي عشقه وتمجيده لابن رشد إلي قيام محام بالسنبلاوين برفع قضية ضده عام1995 بتهمة تأثره بأفكار علمية تبعد كثيرا عن الدين, برغم أن ابن رشد كان فقيها وقاضيا للقضاة! وله رأي جدير بالدراسة حول أدب عميد الرواية نجيب محفوظ سجله في الكتاب الذي أعددته بمناسبة مئوية مولد أديب نوبل, إذ كان يري أن الأدب نوعان: أدب التعبير وأدب التفسير, فأدب التعبير يحدث لذة في النفس, ولكن لا يتضمن الفكر والحكمة, وأدب التفسير يغوص في الأفكار, فهو أقرب للفلسفة, وقد ساعدت دراسة محفوظ للفلسفة علي إتيانه بما يمثل النوعين معا. رحل د. العراقي مخلفا لنا مؤلفات مهمة في مواضيع فلسفية ونقدية معاصرة وتراثية, من بينها: ثورة العقل في الفلسفة العربية, الميتافيزيقا في الفلسفة, الفلسفة الطبيعية عند ابن سينا, النزعة العقلية عند ابن رشد, مذاهب فلاسفة المشرق, الميتافيزيقا في فلسفة ابن طفيل, تجديد في المذاهب الفلسفية والكلامية, العقل التنويري في الفكر العربي المعاصر, تحقيق كتاب الأصول والفروع لابن حزم. الشيخ الإمام محمد عبده والتنوير.. قرن من الزمن علي وفاته, بالإضافة إلي كتاب' ثورة في عالم النقد' الذي كان آخر ما قدمه للمكتبة العربية, وأهلته هذه الأعمال وغيرها لجوائز وتكريمات عدة من بينها جائزة الدولة التشجيعية عام1981 م وجائزة الدولة للتفوق عام2000 م. في آخر حواراته الصحفية, والذي أجراه معه الزميل أيمن السيسي قبل رحيله بأشهر, قال د.العراقي' لم أعد أحلم بعد أن اقتربت من الثمانين سوي بالتكريم بعد موتي, هذه أقل حقوقي عليكم, بعد أن حوصرت في حياتي من المنتقدين; لأني وحيد لا شلة لي ولا مجموعة'.. فهل من سميع؟