تحدث مقال الأسبوع الماضي عن أهمية "الحفاظ على الصحة، باعتبارها نعمة من الله، وضرورة أن يعرف الإنسان: ماذا يأكل، ويشرب، وكيف؟ وتأثير كل طعام يتناوله على جسمه، وكيف يتقي الأمراض -بقدر الإمكان- بتناول غذاء صحي؟ وفي تأكيد هذا النظام الغذائي السليم، قال رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-ِ: "مَا مَلأ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ.. بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ.. فَإِنْ كَانَ لا مَحَالَةَ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ". (رواه الترمذي، وصححه الألباني). هذا الحديث يرسي قاعدة عظيمة للصحة السليمة، تعتمد على تقليل الطعام، وتجويده.. حتى قال ابن رجب: "هذا الحديث أصل جامع لأصول الطب، وقد اشتمل على فوائد كثيرة، منها أن في تقليل الطعام منافع كثيرة للجسم، وأن كثرة الأكل تسبب أمراضاً للبدن". وفي التفسير: "جَعَلَ الْبَطْنَ وِعَاءً كَالْأَوْعِيَةِ الَّتِي تُتَّخَذُ ظُرُوفًا لِحَوَائِجِ الْبَيْتِ تَوْهِينًا لِشَأْنِهِ ثُمَّ جَعَلَهُ شَرَّ الْأَوْعِيَةِ؛ لِأَنَّ امْتِلأهُ يُفْضِي إِلَى الْفَسَادِ فِي الدِّينِ، وَالدُّنْيَا، فَيَكُونُ شَرًّا مِنْهَا.. (بِحَسْب).. أَيْ: يَكْفِيهِ.. "أُكُلَاتٌ" -بِضَمَّتَيْنِ- َأي: يَكْفِيهِ هَذَا الْقَدْرُ فِي سَدِّ الرَّمَقِ، وَإِمْسَاكِ الْقُوَّةِ.. (يُقِمْنَ) مِنَ الْإِقَامَةِ.. (صُلْبَهُ) أَيْ ظَهْرَهُ.. تَسْمِيَةً لِلْكُلِّ بِاسْمِ جُزْئِهِ، كِنَايَةً عَنْ أَنَّهُ لَا يَتَجَاوَزُ مَا يَحْفَظُهُ مِنَ السُّقُوطِ، وَيَتَقَوَّى بِهِ عَلَى الطَّاعَةِ. (فَإِنْ كَانَ لَا مَحَالَةَ) أَي: إِنْ كَانَ لَابُدَّ مِنَ التَّجَاوُزِ عَمَّا ذَكَرَ فَلْتَكُنْ أَثْلاثًا.. فَثُلُثٌ يَجْعَلُهُ لِطَعَامِهِ، وَثُلُثٌ لمَشْرُوبِهِ، وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ -بِفَتْحِ الْفَاءِ- لِيَتَمَكَّنَ مِنَ التَّنَفُّسِ، وَيَحْصُلُ لَهُ نَوْعُ صَفَاءٍ، وَرِقَّةٍ، وَهَذَا غَايَةُ مَا اخْتِيرَ لِلْأَكْلِ، وَيَحْرُمُ الْأَكْلُ فَوْقَ الشِّبَعِ". والأمر هكذا، التزم الصحابة والتابعون بهذه النصيحة النبوية الكريمة.. فقال ابن عمر -رضي الله عنهما-: "ما شبعت منذ أربعة أشهر". وقال الشافعي: "الشبع يثقل البدن، ويزيل الفطنة، ويجلب النوم، ويضعف صاحبه عن العبادة". وفي القرآن الكريم قوله تعالى: "وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ".(الأعراف:31). والإسراف هو: تجاوز الحد في كل فعل أو أمر. وقد اشتملت الآية على نصف الطب، لأن أكثر الأمراض من التُّخمة، وإدخال الطعام على الطعام. وقد اكتشف الباحثون أن الإنسان عندما يتبع نظاماً غذائياً لا يُسرف فيه، ويعتمد على نسب محددة من الغذاء الصحي، يسهم ذلك في خفض نسبة الكوليسترول، وضغط الدم، وهما سببان رئيسان للموت المفاجئ. فسبحان الله الذي جعل عدم الإسراف عبادة يُثاب المرء عليها، فلو طبق الناس هذه الآية لاجتنبوا أمراضا كثيرة.. فمن أكل كثيرا شرب كثيرا فنام كثيرا فخسر كثيرا. قال ثابت بن قرة: "راحة الجسم في قلة الطعام، وراحة الروح في قلة الآثام، وراحة اللسان في قلة الكلام". وقال عمر - رضي الله عنه -: "من كثر أكله لم يجد لذكر الله لذة". وقال علي - رضي الله عنه -: "إن كنت بطناً.. فعد نفسك زمنا". إن وسطية الإسلام في الطعام والشراب مبدأ إسلامي؛ وقى الإسلام به أفراده من الوقوع في الأمراض. وإذا كان الطب يعالج الأمراض بعد وقوعها فإن الإسلام يعطينا وصفات راقية؛ كي لا نقع في هذه الأمراض-أصلا- بالاعتدال في الطعام، والشراب. في الختام يُُحكى أن إبليس عرض ليحيى بن زكريا -عليهما السلام- فقال له يحيى: هل نلتَ مني شيئا قط؟ قال: لا.. إلا أنه قدم إليك الطعام ليلة فشهيته إليك حتى شبعت منه فنمت عن وردك فقال يحيى: "الله علي أن لا أشبع من طعام أبدا".. فقال إبليس: "وأنا.. لله علي أن لا أنصح آدميا أبدا". [email protected] لمزيد من مقالات عبدالرحمن سعد