التاريخ ليس جدار أصم تتراص على سطحه الأحداث بترتيب زمنى وكفى ، بل هو حياة من دم ولحم .لذا كانت الرواية أهم مصادر الاستمتاع بقراءة التاريخ وكأنك تعايشه. ما زلت أتذكر رواية غادة رشيد للكاتب على الجارم .لقد أخذتنى نبوءة العرافة التى غيرت مسار زبيدة بطلة الرواية حتى أكاد أرى لمعة النشوة فى عينى زبيدة وهى تتخيل نفسها ملكة على مصر ..وأوشك أن استشعر لحظات الندم التى مرت بها عندما صار لها الملك وهى زوجة سكير عربيد برتبة جنرال يدعى «مينو». كان على الجارم وجورجى زيدان من هذا الفريق الذى جسد التاريخ فى سطور رواية فأبدع، وعلى حذوهما سار نجيب محفوظ الذي كانت الرواية التاريخية بالنسبة له أداة لاستدعاء الماضي بما يمكنه من الإسقاط على الحاضر..كان يريد من خلال رواياته الأولى التى نشرت فى الأربعينيات وهى : كفاح طيبة وعبث الأقدار ورادوبيس أن يقول إن الشعب الذى هزم الهكسوس يمكنه أن يهزم الإنجليز وبعد انقطاع عن الرواية التاريخية جاءت فى الثمانينيات رائعته (العائش فى الحقيقة ) التى أراها خير ما كتب عن هذا الناسك الفيلسوف اخناتون ...بين سطور الرواية تكاد تتجسد أمامك صورة هذا الشاب النحيف بنظراته الزائغة فى مرحلة ما قبل اليقين قبل أن يعرف طريقه إلى الإله الأوحد آتون ،وتكاد تعيش معه قصته مع نفرتيتي ....قصة امتزج فيها الحب بالإيمان .وتوشك أن ترى تلك المدينة أخيتاتون وقد تحولت إلى مدينة أشباح بعد أن نجح كهنة آمون فى وأد الديانة الجديدة التى نالت من سلطانهم ..ويبدع نجيب محفوظ فى تصوير النهاية ..الأسي على ملامح وروح أخناتون. ثم مشاعر الوحدة القاتلة تجثم على صدر الملكة والحبيبة التى فقدت كل شىء وأصبح عليها اجترار الذكريات فى صمت . أبدع محفوظ فى كتابة الرواية التاريخية. ..وكما نقل لنا عالم الحارة والحرافيش بحرفية خبير ، جسد حياة القصر الفرعونى فى أهم محطاته باقتدار كاتب يعرف كيف يستنطق التاريخ .