في المكان نفسه منذ ألف عام, وأكثر. في صحراء المقدس والمنبوذ,النبيل والمتوحش,الفصيح والمنقوش.في الفيافي,الكهوف والقرى والحواضر مع صرير الرياح,وأصوات الجن,وصحبة الوحوش.مع الخيول والقطا,والذئاب والجمال والغزلان,مع العشق والسبى والسيوف والرماح,وحادي البيد وأسواق الشعر.مع الحب والحرب والفروسية والغدر عاشوا،قبائل وعشائر ومنبوذين وموالى وقطاع طرق وشعراء وفرسان.عاشوا. تركوا لنا اللغة وإرثها،الشعر وأغراضه،الفصاحة والقواعد والنحو والأوزان الشعرية،الوصف وطريقة الحياة, والتفكيرأحيانا.أعظمهم ننسبه إلى زمن نسميه الجاهلية, وبعضهم مما تلاها.قصائدهم معلقات على أستار الكعبة أو بداخل حجرتها المقدسة.قصائدهم كانت بجوار المعبودات العربية أجمعين.حيواتهم تتبدى لنا بعيدة وغريبة اليوم,ومروية عن أزمنة تقريبية لم تثبت تواريخها بدقة.مفاهيمهم تبدو ضاربة فى القدم ومعايشة لبيئة وصفوها بدقة وضمنوا أسماء الأودية والجبال والأماكن والأشجار والطيور والنباتات والقبائل والمعشوقات والأعداء.أشعارهم فى معظمها قصائد مروية.وصلنا قليلها,ولكن قليلها كثير. عروة بن الورد كان أحدهم،والعروة من أسماء الأسد، عرفناه أميرا للصعاليك، شاعرهم ومغيثهم، الفارس المقدام الذى إشتهر بكرمه وجوده وسماحته ونبله ولصوصيته أيضا. ديوان عروة بن الورد قدم له الدكتور سعدي ضناوي وكتب عن حياته وأشعاره وحقق قصائده وقد سبق لها أن قدمت مرارا فى دواوين سابقة. حركة الصعاليك فى العصر الجاهلى أو لعله الزمن,كانت متأصلة وطريقة حياة لإعادة توزيع الثروات الشحيحة ،ونوع من البحث عن العدالة الإجتماعية فى كيان لم يكن قائما على الدولة بل على الإغتلاب والسلب والنهب فى ظل ظلم يستشعر وأملاك يتم تناوشها من الإبل والمال حتى النساء والأطفال.ويترك الفرد قومه وعشيرته فى الغالب لأنه يتخلى عنهم أو يتخلون عنه على حد تحليل سعدي الضناوي.فمفهوم الأرض كان مشاعا وواسعا كما يقول الشنفرى: وفى الأرض منأى للكريم عن الأذى وفيها ,لمن خاف القلى متعزل لعمرك ما فى الأرض ضيق على امرىء سرى راغبا,أو راهبا,وهو يعقل. والخلع هو مصير الخارج عن إجماع القبيلة.ينبذ نبذ البعير الأجرب.فإذا إجتمع الخلع مع الفقر والفآقة أدى إلى التصعلك.وإذا إزداد التصعلك تجمع الصعاليك ووجدوا لهم أميرا وكروا وفروا وراء مغانمهم وأرزاقهم وقوتهم فيما يروون أنه حقهم فى الحياة. يقول الشاعر الأحمر السعدي: وإنى لأستح لنفسى أن أرى أمر بحبل وليس فيه بعير وأن أسأل العبد اللئيم بعيره وبعران ربى فى البلاد كثيرة. ولم يكن التصعلك سبة ,فهو الطريق إلى المال والمجد والعلى إن عز الغنى فى بيئة يسلب فيها الأقوى من كان أضعف فى لحظة مواتية.وها هو حاتم الطائى يقول: غنينا,زمانا,بالتصعلك والغنى, وكلا سقاناه,بكاسيهما,الدهر فما زادنا بأوا, على ذى قرابة, غنانا,ولا أزرى بأحلامنا الفقر. كان هناك أمراء للصعاليك,وكان هناك ذؤبان العرب,وذؤب الرجل وتذأب أى خبث وصار كالذئب خبثا ودهاء.وعروة بن الورد كان أميرا للصعاليك.يجمعهم ويغيثهم ويقوم بأودهم.كان منتصرا للفقراء,أكثر منه حاجة للمال.شاعر مغامرة ميال للعدالة الإجتماعية فى بيئة شرسة تكثر فيها الغارات والسلب والنهب.وحتى زيجاته المعروفة والتى كتب فيها شعرا ,كانت من نساء غار على قبائلهن وإستبى نساء تزوجنهم من بعد. يقول عروة بن الورد: إنى إمرؤ عافى إنائي شركة وأنت إمرؤ عافى إنائك واحد أتهزأ منى أن سمنت وأن ترى, بوجهى ,شحوب الحق,والحق جاهد؟ أقسم جسمي فى جسوم كثيرة وأحسو قراح الماء والماء بارد. كان الشعر الجاهلي,من بين شعر جميع الحقب العربية,أكثر من سواه إرتباطا بالحياة والواقع.وفى هذا السياق يوصف شعر عروة بن الورد بالشعر الصافي من تلك المرحلة.وتوصف الصعلكة عند عروة بأنها إغتراب وسفر,طواف وبحث,تتبع أثر ونصب شراك ورسم مكائد,هى سطو منفرد,أو فى جماعة قليلة تنظم وتوزع الأدوار وتعين المهاجم والربيئة والحارس. يقول عروة بن الورد: دعيني أطوف فى البلاد لعلني أصيب غنى فيه,لذى الحق,محمل. ويقول: ألا احي,وأنت حر, ستشبع,فى حياتك,أو تموت. عروة بن الورد حامي حمى,منتصر للضعفاء والفقراء,ويقول بيته الذى لم تهدمه القرون: أكلكم مختار دار يحلها وتارك هدم ليس عنها مذنب؟ كم ذا ينطبق بيت الشعر هذا على خراب العرب اليوم من عاصمة لعاصمة! كم هم المتروكون إلى مصائرهم وأحتافهم بلا ذود ولا حمى.كم هم المهاجرون إلى بيوت جديدة تاركين الخراب والجثث ونعيق الغربان وراءهم!