«المشاط»: 1.158 تريليون جنيه سقف الاستثمارات العامة للعام المالي المقبل    زلزال بقوة 5.3 ريختر يضرب شمال سومطرة في إندونيسيا    لم يستسلم بعد.. الهلال يقسو على العروبة في الدوري السعودي    مصرع عامل غرقا في ترعة الجيزاوي بالعياط    أتالانتا ضد روما.. التشكيل الرسمي لقمة الدوري الإيطالي    المركز الثقافي الأرثوذكسي يكرم د. شوقي علام ويشيد بدوره التنويري    من الإعارة إلى التألق.. إيريك جارسيا "ورقة رابحة" في يد فليك    ترامب يدافع عن الطائرة هدية قطر: لست غبيا لأرفضها.. وقدمنا لهم الكثير من مساعدات الأمن والسلامة    خناقة بالشوم وألفاظ خارجة داخل مسجد بالسلام.. ومصدر يكشف مصير المتهمين    وزير السياحة: مصر ماضية بخطى ثابتة لاستعادة آثارها المهربة بطرق غير شرعية    أستاذ علوم سياسية: إنهاء صفقة عيدان ألكسندر خطوة مهمة فى دعم القضية الفلسطينية    تطور جديد فى خلاف أبناء محمود عبد العزيز ضد بوسي شلبي    «بيئة العمل تحتاجهم».. 4 أبراج تترك أثرًا إيجابيًا لا يُنسى في أماكنهم    عالم بالأزهر: هذا أجمل دعاء لمواجهة الهموم والأحزان    إطلاق الخطة العاجلة للسكان والتنمية والبرنامج القومي للوقاية من التقزم    يونيفيل: العثور على 225 مخبأ للسلاح جنوبي لبنان    ما حكم إقامة العلاقة الزوجية أثناء الحج؟.. أمين الفتوى يجيب    نادية الجندي تخطف الأنظار بإطلالة شبابية جديدة | صورة    الأمم المتحدة: سكان غزة يواجهون مستويات عالية من انعدام الأمن الغذائي    أمينة الفتوى: هذه أدعية السفر منذ مغادرة المنزل وحتى ركوب الطائرة لأداء الحج    أمينة الفتوى: الزغاريد عند الخروج للحج ليست حراماً لكن الأولى الالتزام بالأدب النبوي    المؤبد لقاتل شقيقه داخل مزرعة مواشي بالدقهلية بعد تنازل الأب عن الحق المدني    «كان مغير اسمه».. القبض على متهم جديد في جريمة شقة محرم بك بالإسكندرية    طلاب إعلام الاهرام الكندية تعيد فرقة رضا للجمهور ب إبهار تراثي عصري جديد    قطرة شيطان.. قتل خالته وسهر بجوار جثتها مخمورًا حتى طلوع الفجر (كواليس جريمة بشعة)    بالصور.. الكشف على 3400 مواطن في قافلة طبية لجامعة أسيوط بغرب أسوان    تأجيل إعادة محاكمة 5 متهمين ب"الخلية الإعلامية" لجلسة 10 يونيو    «تلاعب في العدادات وخلطات سامة».. 5 نصائح لحماية سيارتك من «غش البنزين»    عون وعباس والشرع في السعودية خلال زيارة ترامب.. ماذا سيوضع على الطاولة؟    أهم 60 سؤالاً وإجابة شرعية عن الأضحية.. أصدرتها دار الإفتاء المصرية    معاش المصريين العاملين بالخارج 2025: الشروط والمستندات وطريقة الاشتراك    شهادات نجوم الفن.. هل تنهي أزمة بوسي شلبي وأبناء الساحر؟| فيديو    أسعار الحديد ومواد البناء اليوم الإثنين 12 مايو 2025    يُسلط الضوء على المواهب الصاعدة.. الكشف عن الشعار الرسمي لكأس العالم تحت 17 سنة    بعد إعلانه رسميًا.. جدول امتحانات الصف الخامس الابتدائي بأسوان (تفاصيل)    بعد مباراة الليلة.. ماذا ينتظر مصر وغانا فى أمم أفريقيا للشباب ؟    تفاصيل الحملة القومية الأولى ضد مرض الحمى القلاعية وحمى الوادى المتصدعة أسوان    اعتماد أوروبي لقصر العيني كمركز متخصص في رعاية مرضى قصور القلب    براتب 6500.. فرص عمل في شركة مقاولات بالسعودية    فانتازي.. ارتفاع سعر لاعب مانشستر سيتي    موعد وقفة عرفة 2025.. فضل صيامها والأعمال والأدعية المستحبة بها    موعد تسليم دفعة جديدة من وحدات مشروع جنة بالقاهرة الجديدة    أشرف العربى إطلاق تقرير "حالة التنمية في مصر" 18 مايو بشراكة مع "الإسكوا"    «بعبع» تسريب امتحانات الثانوية العامة.. هل يتكرر في 2025؟| ننشر خطة «التعليم» كاملة    استمرار حملة "تأمين شامل لجيل آمن" للتعريف بالمنظومة الصحية الجديدة بأسوان    مجلس الوزراء يستعرض جهود الدولة لتوطين صناعة الدواء.. مصر تخطو بثبات نحو الاكتفاء الذاتي من الدواء وتصدر لأكثر من 147 دولة.. 180 مستحضرًا و129 مادة فعالة.. وتحقيق وفر بمئات الملايين.. إنفو جراف    في اليوم العالمي للتمريض.. من هي فلورنس نايتنجيل؟    وظائف خالية اليوم.. برواتب تصل إلى 6500 ريال فرصة عمل لعمال مصريين بالسعودية    مصادر: بورصة مصر تبحث قيد فاليو الأربعاء المقبل    عاجل- رئيس الوزراء يتابع ملفات الاتصالات.. ومبادرة "الرواد الرقميون" في صدارة المشهد    براتب يصل ل 500 دينار.. 45 فرصة عمل بالأردن في شركات زراعية وغذائية وصناعات خشبية (قدم الآن)    تقييم صلاح أمام أرسنال من الصحف الإنجليزية    البابا ليو الرابع عشر يفتتح رسميًا الشقة البابوية إيذانًا ببداية حبريته في الفاتيكان    البنك الأهلي يرغب في ضم كريم نيدفيد    انطلاق فعاليات الدورة التدريبية الرابعة بجامعة القاهرة لأئمة وواعظات الأوقاف    رئيس «دي إتش إل» يتوقع استفادة من التوترات التجارية بين واشنطن وبكين    حالة الطقس اليوم في السعودية    أمام العروبة.. الهلال يبحث عن انتصاره الثاني مع الشلهوب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شعريَّةُ الحيَاةِ اليوميَّةِ وَالخِطَابِ الشِّفاهىِّ فى تجربةِ رياض الصَّالح الحُسَين
نشر في الأهرام اليومي يوم 07 - 12 - 2014

تُعدُّ تجربَةُ الشَّاعرِ رياض الصَّالح الحُسَين (1954- 1982) ، واحدةً منْ التَّجاربِ الشِّعريَّةِ الأسَاسيَّةِ ، الَّتى قادَتْ إلى المَشْهَدِ الشِّعريِّ الرَّاهنِ باشتغالاتِهَا الجَمَاليَّةِ المَائزةِ ؛ المُتمثِّلةِ فى احتفائِهَا بجَمَاليَّاتِ الحَيَاةِ اليوميَّةِ المَعِيشَةِ الدَّالةِ ؛ بسرديَّاتِهَا المُعَاصِرَةِ ، وَتفاصِيلِهَا الحَيَاتيَّةِ المَعِيشَةِ ، وَأدائِهَا الشِّفاهيِّ الحَيِّ الحَمِيمِ وَنَبَرَاتِهَا الشَّخصِيَّةِ ، وَخُروجِهَا على وثنيَّةِ اللغَةِ الشِّعريَّةِ، وَكيميائيَّةِ التَّعبيرِ الشِّعريِّ ، وَتَعَدُّدِ شَفَرَاتِ النَّصِّ.
وَرِياض الَّذى لمْ يمكُثْ فى دُنيَانَا أكثرَ منْ ثمانيَةٍ وَعِشْرينَ عَامًا، هُوَ واحدٌ منْ حلْقَةِ شُعَرَاء أسَّسوا هذَا التَيارَ فى مَشْهَدِ الشِّعريَّةِ العَرَبيَّةِ الجَديدَةِ، فى سُوريا، مُتخلِّصِينَ منْ ضَجيجِ الأيدلوجيِّ وَالمِيتَافيزيقيِّ وَالذِّهنيِّ، المُحِيطِ بهِمْ: عَاكِفيْنَ على اليوميِّ وَالشَّخصِيِّ وَالشِّفاهيِّ لِصِيَاغَةِ خطابٍ شِعريٍّ جديدٍ، ضَمَّتْ هذِهِ الحلْقَةُ مجموعةَ أصْوَاتٍ شِعريَّةٍ ، يأتى فى طليعتِهَا: بندر عبد الحميد ، ومُنْذر مِصْرى ، وعادل محمود ، وكانَ رياض أصغرَ شُعرَاءِ هذِهِ الحلْقَةِ ، وَكانَ لهذَا التَّيَّارُ حضورٌ آخرٌ فى الشِّعريَّةِ الجديدَةِ فى لبنانَ ، بَرَزَ فى نصوصِ وديع سعادة ، ثم بسَّام حجَّار ، وَالفلسطينيِّ المُقيمِ بلبنانَ حينئذٍ أمجد ناصِر .
وُلِدَ رياض فى درعا ، وَعَمِلَ فى مركز الدِّرَاسَاتِ الفلسطينيَّةِ فى دمشقَ ، وَقدْ مَنَعَهُ الصَّمَمُ وَالبَكَمُ منْ إكمَالِ دراسَتِهِ ، وَكانَ قدْ أصِيْبَ بالصَّممِ فى عامِ ، عَقِبَ عمليَّةٍ جِرَاحيَّةٍ فى الكليتيْنِ 1967 ؛ فدَأبَ على تثقيفِ نفسِهِ بالتَّجاربِ العَرَبيَّةِ الجديدَةِ وَالمُترجَمَةِ ، وَاضطُرَ إلى العَمَلِ مُبكِّرًا ، وَتُوفِّيَ فى مستشفى المُوَاسَاةِ ، بدِمشقَ ، عَصْرَ يوم 12 / 11 / 1982 بسبب قُصورٍ فى عَمَلِ الكليتيْنِ ؛ نَجَمَ عنْه توقُّف عَمَلِ القلْبِ .
أصْدَرَ رياض فى حياتِهِ ثلاثَةَ دواوين ، هيَ : خَرَابُ الدَّورةِ الدَّمويَّةِ : 1979- أسَاطيرُ يوميَّةٌ : 1980- بسيطٌ كالمَاءِ ، وَاضِحٌ كطلقَةِ مُسَدَّسٍ : 1982، وَصَدَرَ الرَّابعُ ، وهو أبرَزُ هذِهِ الأعمَالِ ، عَقِب وفاتِهِ ، تحتَ عنوانِ : وَعْلٌ فى الغَابَةِ : 1983 ، وَبالإضَافةِ إلى هذِهِ الأعمَالِ الشِّعريَّةِ ، كَتَبَ رياض القِصَّةََ القَصِيرَةَ ، وَالمَقَالةَ ، وَكَتَبَ للأطفالِ ، وَفى النَّقدِ الأدبيِّ .
وَبمُنْجَزِهِ الشِّعريِّ يقَعُ رياض فى قلْبِ الحَلْقَةِ السُّوريَّةِ السَّبعينيَّةِ ، الَّتى أرْسَتْ جماليَّاتِ شِعريَّةِ اليَومِيِّ وَالشَّخصِيِّ وَالشِّفاهيِّ البَسِيطِ ، فى مَتْنِ الخِطَابِ الشِّعريِّ الجديدِ لِلْقَصِيدِ النَّثريِّ ، وَمُبكِّرًا ، عنْ مُعْظَمِ المَشَاهِدِ الشِّعريَّةِ العَرَبيَّةِ المُجَاورَةِ ؛ فَجَعَلتْ الهَامِشَ مَتْنًا ، وَانتصَرَتْ لتفاصِيلِ الحَيَاةِ المَعِيشَةِ ، وَسَرْديَّاتِهَا الحَيَاتيَّةِ ، وَشَوَاغلِهَا الشَّخصِيَّةِ الحَمِيمَةِ ، وَيَتَبَدَّى هذَا النُّزوعُ فى العنوَانِ اللافِتِ للمَجْمُوعَةِ الشِّعريَّةِ الثَّانيَةِ لرياض : " أسَاطيْر يومِيَّة ".
وَيَعْكِسُ خِطَابُ رياض وَلَعَهُ ، فى المَرْحَلَةِ المُبَكِّرَةِ منْ تجربتِهِ ، بحضورِ الأيدلوجيا فى بنيَةِ الخِطَابِ الشِّعريِّ ، ويبدو صَوْتُ رياض فى هذِهِ الحَالةِ كأنَّهُ يُعَمِّقُ تيَّارَ محمَّد المَاغُوط ؛ بنبرتِهِ الحَادَّةِ المُتمَرِّدَةِ وَمنظُورِهِ الأيدلوجيِّ وَلُغتِهِ السَّاخِطَةِ ، الَّتى تَجْمَعُ فى دفعتِهَا الأيدلوجيَّةِ شَظايَا التَّفاصِيلِ اليوميَّةِ ، بأدَاءٍ لغويٍّ شِفاهِيٍّ تقريريٍّ ، وَاليومِيُّ فى هذِهِ الحَالةِ ليْسَ فى أهميَّةِ الأيدلوجيِّ ، وَإنْ كانَ رياض أكثرَ جنوحًا إلى شِعريَّةِ اليَومِيِّ وَالمَعِيشِ ، وَالنَّبرَةِ البَاطِنيَّةِ ، وَأقلّ ضَجيحًا منْ المَاغُوط ؛ الَّذى قدَّمَ أقْصَى عَطَاءاتِهِ الشِّعريَّةِ عَبْرَ ديوانيْهِ الأوَّليْنِ : حُزْنٌ فى ضَوْءِ القَمْر : 1959 ، وَ: غُرْفةٌ بمَلاييْنِ الجُدْرَانِ : 1964.
يتبدَّى هذَا النُّزوعُ ، لدَى رياض ، فى قولِهِ :
" يَا سُوريَّا الجَمِيلة السَّعيدة
كمِدْفأةٍ فى كانونَ
يَا سُوريَّة التَّعِيسَة
كعَظْمَةٍ بيْنَ أسْنَانِ كَلْبٍ
يَا سُوريَّة القَاسِيَة
كمِشْرَطٍ فى يدِ جَرَّاحٍ
نحنُ أبناؤكِ الطيِّبونَ
الَّذين أكلْنَا خُبْزَكِ وَ زيتونَكِ وَ سِيَاطَكِ
أبدًا سَنقودُكِ إلى اليَنَابيعِ
أبدًا سَنُجفِّفُ دَمَكِ بأصَابعِنَا الخَضْرَاءِ
وَ دموعَكِ بشِفَاهِنَا اليَابِسَةِ
أبدًا سَنشُقُّ أمَامَكِ الدُّروبَ
وَ لنْ نتركَكِ تضيعِيْنَ يَا سُوريَّة
كأغنيَةٍ فى صَحَرَاء . "
بالنَّبرَةِ الخَطَابيَّةِ التَّقريريَّةِ الجَهِيرَةِ الحَارَّةِ ، المَوْرُوثَةِ عنْ المَاغُوطِ ، تَحَوَّلَ رياض ، بالتَّدريجِ ، إلى أدَاءٍ يخُصُّهُ :
" سَأقِفُ، أيضًا، سَأقِفُ
لأُحَدِّثكمْ عَنِّي
مِثْلَمَا يتحدَّثُ الدِّيكتاتورُ عنْ سجونِهِ
وَ المليونيرُ عنْ مَلايينِهِ
وَ العَاشقُ عنْ نهديْ حبيبتِهِ
وَ الطِّفلُ عنْ أمِّهِ
وَ اللصُّ عنْ مفاتيحِهِ
وَ العَالمُ عنْ حُكَّامِهِ
سَأحدِّثكُمْ بحُبٍّ، بحُبٍّ، بحُبٍّ
بعدَ أنْ أشْعِلَ سِيجَارَة !."
بهذِهِ النَّبرَةِ المُحَمَّلةِ بشَظَايَا منْ الوَاقِعِ المَعِيشِِ ، بنَى رياض نصوصًا تتجَاوَرُ التَّفاصِيلُ فيها ، لبناءِ نصوصٍ ، تُؤسِّسُ شِعريَّتَهَا بتفجيرِ المُفَارَقةِ فى نِهايَاتِهَا ، كَمَا فى هذا النَّصِّ :
" لسْتُ بائعَ خَرْدَواتٍ
وَلا مُهَرِّبَ دخانِ مارلبورو
وَلا أمْلِكُ مُسدَّسًا لأنتحِرَ
وَلا قُنبلةً لأخْطِفَ طَائرَةً
لمْ أبعْ قلبى بالمزَادِ العَلنيِّ
وْلمْ اشْترِ الويسكى منْ السُّوقِ الحُرَّةِ
لمْ أقتُلْ رَجُلاً
وَلمْ أصْفَعْ امْرَأةً بوَرْدَةٍ
فلِمَاذَا... لِمَاذَا
أيَّتُهَا الأحْجَارُ الَّتى لا تُحِبُّ المُوسِيْقَى
كُلَّمَا شَاهَدَنِى حفَّارو القبورِ
يَفْرُكونَ أيديهم بغِبْطَةٍ
وَيَدْعُوننِى لِزيَارتِهِمْ ؟."
وَ يكشِفُ الخِطَابُ الشِّعريُّ لرياض عنْ مجموعةٍ منْ الخَصَائصِ الجماليَّةِ المُتآزِرَةِ ؛ المُتمثلَةِ فى : الجُنُوحِ إلى النَّزعَةِ اليوميَّةِ المَعِيشَةِ ، وَبَسَاطةِ الأدَاءِ الشِّعريِّ وَتَدَاوليَّتِهِ وَشِفَاهيَّتِهِ ، وَتخفُّفِهِ منْ المَوَاريْثِ البلاغيَّةِ المَوْروثَةِ اسْتنادًا إلى بلاغيَّةِ المَشْهَدِ المَعِيشِ، وَوَقائعِيَّةِ الحَيَاةِ اليوميَّةِ ، وَأسْطَرَةِ المَعِيشِ ، وَالغنائيَّةِ الاستبطانيَّةِ الرَّهيفَةِ ذَاتَ النَّبرَةِ الفَجَائعيَّةِ ، وَالتَّعبيرِ عنْ ذاتٍ فرديَّةٍ بسيطَةٍ هَشَّةٍ وَسَاخِطَةٍ فى مواجَهَةِ جَحِيمِ الوَاقعِ المَعِيشِ ، بنبْرَةٍ تحْمِلُ المَرَارَةَ وَالألمَ البَاهِظَ ، وَلِلْمَوْتِ حضورٌ وَافرٌ فى الحَيَاةِ كَمَا أنَّ لِلْحَيَاةِ حضورًا وافرًا فى المَوْتِ ، فى تجربَةِ رياض ، وَبخَاصَّةٍ فى عملِهِ الشِّعريِّ الأخيْرِ : وَعْل فى الغَابَةِ .
تَحْضُرُالتَّفاصِيلُ الحَيَاتيَّةُ المَعِيشَةُ ، المُنْتَخَبَةُ بدِقَّةٍ ؛ لِتُشَكِّلَ بنيَةً شِعريَّةً مُحْكَمَةً وَمُكَثَّفَةً ، ذَاتَ أدَاءٍ إيقاعيٍّ حَادٍّ ، وَأدَاءٍ لغويٍّ شِفَاهيٍّ رَهِيْفٍ وَمُقْتَصِدٍ :
" غُرْفَةٌ صَغيرَةٌ صَالحَةٌ للحَيَاةِ
غُرْفةٌ صَغيرَةٌ وَ ضَيِّقةٌ صَالحَةٌ للمَوْتِ
غُرْفةٌ صَغيرَةٌ وَ رطْبَةٌ لا تَصْلُحُ لِشَيءٍ
غُرْفَةٌ صَغيرَةٌ فيْهَا :
امْرَأةٌ تُقشِّرُ البَطَاطَا وَ اليأسَ
عَامِلُ باطون لا ينَام أبدًا
بنتٌ تبكِى كثيرًا بدونِ سَبَبٍ
وَ أنَا وَلَدٌ مُشَاكِسٌ وَ غَيْرُ لئيمٍ
لدَيَّ كُتُبٌ وَ أصْدِقاءٌ
وَ لا شَيءَ غَيْرُ ذَلكَ . "
وَيَحْضُرُ الألمُ على نحوٍ كثيفٍ وَمُلحٍّ ، فى خِطَابِ رياض الشِّعريِّ ، مَهْمَا بَدَتْ الحَياَةُ جَمِيلةً :
" نحْنُ مُتَّفِقانِ:
الحَيَاةُ جَمِيلَةٌ
وَالناسُ رَائِعُونَ
وَالطَّريقُ لمْ تنْتَه وَلكِنْ انْظُرْ إليَّ قليلاً فإنَّنى أتألَّمُ
كَوَحْشٍ جريحٍ فى الفَلاةِ. "
وَبالإضَافةِ إلى الحُضورِ الوَافرِ للألمِ ، يحضُرُ المَوْتُ على نحْوٍ كثيفٍ ،وَلا يبدو المَوْتُ لدى رياض نهايَةً للحَيَاةِ ؛ بلْ دخولا فى حَيَاةٍ أخْرَى ، إنَّ فى المَوْتِ حَيَاةٌ أخْرَى ، وَلاينقطِعُ المَوْتَى تمَامًا عن حَيَوَاتِهِمْ الأولى :
" المَوْتَى الَّذين مَاتُوا فى الحُروبِ وَالأوبئَةِ ، فى السُّجونِ وَالطُّرُقاتِ ،
المَوْتَى الذين مَاتُوا بالخِنْجَرِ وَالرّصَاصِ وَالدِّينامِيْتِ ، بِالفأسِ وَحَبْلِ المَشْنقَةِ ،
المَوْتَى الجَمِيلونَ ذَوُو الأسْنَانِ البَاليَةِ
وَالوجوهِ النَّاتئَةِ
تذكَّرُوا وَهُمْ فى قبورِهِم
ضَوْءَ القَمَرِ وَخُضْرَةَ المَرَاعِي
تذكَّرُوا أنَّهُمْ لمْ يَعِيشُوا كَمَا ينبغِي
لمْ يَنْتَبِهُوا إلى الأصْوَاتِ وَالألوَانِ
تذكَّرُوا:
كَمْ قبلةً أضَاعُوا
كَمْ ضَوْءًا أغْمَضُوا عيونَهُمْ كيْلا يَرَوْهُ
كمْ زَهْرَةً لمْ يَزْرَعُوا
كَمْ كلِمَةً طيِّبَةً لمْ يقولُوهَا
المَوْتَى عَرِفُوا رُبَّمَا لِلْمَرَّةِ الأخِيْرَةِ
كمْ هيَ لذيذةٌ
حَيَاةُ الأحْيَاءِ ."
إنَّ المَوْتَى فى حَيَوَاتِهم الأخْرَى ، لاينقطِعُونَ عنْ اشتِغَالاتِهِمْ الَّتى كانَتْ فى دُنياهم ، وَيُقدِّمُ رياض نصوصًا عنْ عَوَالمِ المَوْتَى شَديدَةِ الرَّهافَةِ وَالإحْكَامِ وَالدَّلالةِ ، مِنْهَا نصُّ : الخِنْجَرُ؛ الَّذى يقولُ فيْهِ :
" الرَّجُلُ مَاتَ
الخِنْجَرُ فى القلْبِ
وَالابتسَامَةُ فى الشَّفتيْنِ
الرَّجُلُ مَاتَ
الرَّجُلُ يتنزَّهُ في قبْرِهِ
يَنْظُرُ إلى الأعْلَى
يَنْظُرُ إلى الأسْفَلِ
يَنْظُرُ حَوْلَهُ
لا شَيءَ سِوَى التُّرَابِ
لا شَيءَ سِوَى القَبْضَةِ اللامِعَةِ
لِلْخِنْجَرِ فى صَدْرِهِ
يبتسِمُ الرَّجُلُ المَيْتُ
وَيُرَبِّتُ على قبْضَةِ الخِنْجَرِ
الخِنْجَرُ صَدِيقُهُ الوَحِيْدُ
الخِنْجَرُ ذِكْرَى عَزِيْزَةٌ
منْ الَّذين في الأعْلَى. "
وَمِنْهَا كَذَلكَ نصُّهُ : العَاشِقُ ، الَّذى يقولُ فيْهِ :
" يَحْفُرُ العَاشِقُ بأظَافِرِهِ تُرَابَ القَبْرِ
يَحْفُرُ فى بقايَا التَّاريخِ
يَحْفُرُ مُنذُ ألفِ عَامٍ
يَحْفُرُ لِيَصِلَ
يَحْفُرُ دُونَمَا ألمٍ (المَوْتَى لا يَتَألَّمُونَ)
وَالعَاشِقُ المَيِّتُ يُريدُ الوُصُولَ لمَنْ يُحِبُّ
وَسَيَظلُّ يَحْفُرُ بالأظافرِ وَالأسْنَانِ
تُرَابَ القَبْرِ
سَيظلُّ يَحْفُرُ إلى الأبَدِ ."
وَيوَاصِلُ المَيِّتُ فى حَيَاتِهِ الأخْرَى إنْجَازاتِهِ ، الَّتى انتزعَهُ منْهَا المَوْتُ ، غَيْرَ آسِفٍ على مَا تَرَكَهُ خَلْفَهُ منْ أشياءَ فى حَيَاتِهِ الأولى :
" لمْ يأسَفْ على شَيءٍ
حِيْنَمَا أخَذُوهُ إلى المَقْبَرَةِ
لمْ يأسَفْ سِوَى على المِطْرَقَةِ والأزمِيلِ
على الألوَانِ وَالفُرَشِ
على اللوحَاتِ وَالتَّمَاثيلِ
وَهَا هُوَ الآنَ فى القبْرِ
هيكلاً عظمِيًّا
هَا هُوَ يقومُ جَامِعًا عِظَامَهُ
سَيَصْنَعُ منْ سُلاميَّاتِ الأصَابِعِ
خَوَاتمَ وَأقراطًا
منْ الجُمْجُمَةِ دَوْرَقًا للنَّبيْذِ
منْ العَمُود الفِقريِّ
صُحُونًا وَأكْوَابًا
وَرُبَّمَا يَصْلُحُ عَظْم الكَتِفِ
لِصُنْعِ طَائرٍ. "
وَيكتُبُ الشَّاعرُ فى قبرِهِ ، قَصَائدَهُ وَأقاصِيْصَهُ الَّتى لمْ يُتِمَّهَا فى حَيَاتِهِ الدُّنيَا ، لايكُفُّ عنْ الكِتابَةِ بموتِهِ :
" بريشَةٍ منْ العِظَامِ وِحِبْرٍ منْ الطَّمي
يكتُبُ على جُدْرَانِ قبرِهِ
قَصَائدَ وَرِوَايَاتٍ وَقصَصًا
قَصَائِدَ عنْ الحُبِّ
وَرِوَايَاتٍ عنْ القُرَى وَالمُدُنِ
وَقصَصًا عنْ الأرانبِ وَالعُجولِ
إنَّهُ يكتُبُ مُنذُ أنْ مَاتَ
يكتُبُ رَغْمَ أنَّ أحَدًا لا يقرَأُ مَا يكتُبُهُ
يكتُبُ دُونَمَا توقُّفٍ ، يكتُبُ برَغْبَةٍ ،
بانْدِفاعٍ لا يفعلُ شيئًا سِوَى الكِتَابَةِ
يكتُبُ رُبَّمَا لأنَّ الكِتابَةَ فِعْلُ حَيَاة ."

وَيَجْنَحُ الأدَاءُ الشِّعريُّ الغِنَائيُّ إلى أسْطَرَةِ التَّفاصِيلِ المَعِيشَةِ وَتشْكِيْلِ الصُّورِ الدَّالةِ ، عَبْرَ التَّوسُّعِ فى إعْمَالِ مِخْيَالٍ خَلاَّقٍ ؛ لِتَجْسِيدِ حَالةٍ شِعريَّةٍ مُشِعَّةٍ بالدّلالاتِ ، كَمَا فى قولِهِ :
" الذِّئبُ الَّذى افترَسَنِي
تَرَكَنِى وَحِيْدًا فى الغَابَةِ
مَنْ يُغطِّى جُثَّتِى بالأعْشَابِ
بأوْرَاقِ الأشْجَارِ اليَابسَةِ
بقليْلٍ منْ تُرَابٍ ؟
مَنْ يقرَأُ الفَاتِحَةَ على رُوحِي
مَنْ يُغْمِضُ عينيَّ الهَلِعَتيْنِ
مَنْ يَضَعُ على صَدْرِي
صَلِيْبًا منْ أزْهَار؟
الذِّئبُ الَّذى افترَسَنِي
صَارَ أنَا
أخَذَ وَجْهِى الشَّاحِبَ
وَ شَفَتَيَّ المُرْتَجِفتيْنِ
وَ قلبِى الطَّيِّبِ
وَ ظلَّ مُحْتَفِظًا بأنيَابِهِ
أنَا الذِّئبُ
ذُو اليَدِ البَيْضَاءِ
أدُورُ فى المَدِينَةِ وَ أعْوِي
أنَا الَّذى قَتَلَ الصَّيَّادَ فى الغَابَةِ
أنَا الصَّيَّادُ
احْذَرُوا حُبِّي
وَ احْذَرُوا أنْيَابِى . "
إنَّ الأدَاءَ الشِّعريَّ فى خِطَابِ رِياض الصَّالح الحُسَين لايَزَالُ على طَزَاجَتِهِ ، على الرَّغمِ منْ مرورِ أكثر منْ ثلاثَةِ عقودٍ على رَحِيْلِهِ ، بلْ هُوَ يقترِبُ أكثرَ منْ رَاهِنِ الشِّعريَّةِ العَرَبيَّةِ الجَديدَةِ ، وَبالفِعْلِ كَانَ رِياض أحَدَ الآبَاءِ الأسَاسِيِّينَ لِشُعرَاء تَحَوَّلُوا بشَكْلٍ جَمَاعيٍّ مُنْذُ نِهايَاتِ الثَّمانينيَّاتِ إلى شِعريَّةِ اليَومِيِّ وَالتَّفاصِيليِّ وَالمَعِيشِيِّ وَ الشَّخصَانِيِّ وَالبَسِيطِ المُهْمَلِ ؛ الَّذى عَاشَ مُهَمَّشًا طويلا ، وَجَعَلُوا الهَامِشَ مَتْنًا ، فى حِرَاكٍ شِعريٍّ كَثِيفٍ ، لايَزَالُ حَاضِرًا بقوَّةٍ ، فى مَشْهَدِ الشِّعريَّةِ العَرَبيَّة الجَدِيدَةِ .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.