الزائر للمغرب، يوقن فى أسرع وقت أن عشق المغاربة الفطرى والتاريخى للمصريين، ما زال أقوى بكثير من أى خلافات سياسية أو أيديولوجية. فعلى الرغم من التوتر الذى شاب العلاقات بين البلدين العربيين الكبيرين فى الفترة الأخيرة، بسبب محاولات الوقيعة المتعمدة التى قامت بها بعض الأطراف والجهات السياسية والإعلامية فى البلدين، فإن الافتتان المغربى بكل ما هو مصرى، لا يزال يطغى على أى نقاش أو اتصال بين أبناء الشعبين فى أى مناسبة، وهو ما وصل بنا إلى نتيجة سريعة مفادها ذوبان الجليد بين البلدين، وبدء موجة جديدة من التقارب القائم على المصالح المشتركة والعلاقات الأزلية التى هى بالتأكيد أكبر وأقوى من الحكومات والأحزاب. بمجرد أن يطأ المصرى أرض المغرب، وحتى إن كان فى ذهنه أى انطباعات مسبقة عن الوضع السياسى المغربى، وبخاصة بعد وصول حزب "العدالة والتنمية" الإسلامى إلى رأس الحكومة هناك، يجد أن المغاربة العاديين، بمختلف فئاتهم وطبقاتهم، يشعرون بالود والقرب تجاه أبناء النيل، إذ لا يزالون يتذكرون حتى يومنا هذا العلاقات الوطيدة التى كانت تجمع بين كبار الفنانين المصريين مثل أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب، وعبد الحليم حافظ،مع الملك الحسن الثانى عاهل المغرب الراحل، فلا تكاد تبدأ مناقشة بين مصرى ومغربى إلا وقد استحوذت هذه الخلفية التاريخية على معظمها، وفى نهاية الحوار، يأتى السؤال التقليدى : "هل استقرت الأوضاع فى مصر الآن"؟ ومهما كانت الإجابة، يختتم الجانب المغربى الحوار بعبارة ودودة تقليدية من نوعية "اللهم احفظ مصر"، "اللهم انصرها على الإرهاب"، وغير ذلك من العبارات التى تجعل المرء يصاب بالدهشة إزاء ما يقال عن وجود توترات بين البلدين. ولا يخفى على أحد أن هذه الحوارات تستشف من خلالها رغبة حقيقية من الأشقاء المغاربة فى إقامة علاقات قوية مع مصر فى المرحلة المقبلة، وليس العكس كما تشير تركيبة الحكومة الحالية فى المغرب، وربما كان السبب فى ذلك أيضا، بجانب ما سبق ذكره عن التقارب الفطرى والتاريخى، الملك محمد السادس عاهل المغرب، الذى يقود تجربة تنموية متميزة فى بلاده تقوم على أساس التحديث والتعددية الحزبية وحرية التعبير وتحسين أوضاع حقوق الإنسان، ولكن دون المساس بالقوام الأساسى للدولة أو تهديد كيانها كما حدث فى دول ما يسمى ب"الربيع العربى". واتضح هذا مؤخرا فى الرسائل الواضحة التى وجهها الملك محمد السادس فى كلمة أمام قمة الأعمال العالمية بمراكش الأسبوع قبل الماضى، وفى كلمته أمام الدورة الثانية للمنتدى العالمى لحقوق الإنسان فى المدينة نفسها، ففى الكلمة الأولى تحدث عن أهمية تكنولوجيا المعلومات والابتكار ولكن مع التحذير من أن تصبح هذه الوسائل التكنولوجية قناة لخدمة التطرف ومروجى الأيديولوجيات المنحرفة، وفى الكلمة الثانية تحدث عن أن المغرب اختار بمحض إرادته السيادية الخالصة طريق الديمقراطية كخيار لا رجعة فيه، ولكنه فى الوقت نفسه أكد أن هذا الاختيار يقوم على أساس تعزيز دولة الحق والقانون، وكذلك على أساس المبادىء والتعاليم والمقاصد السمحة للإسلام، وإعادة الاعتبار للثقافة الأمازيغية للبلاد، فهو هنا يتحدث عن سيادة القانون، والإسلام الوسطى، والهوية الوطنية للمغرب. بل يمكن القول إن المغاربة أنفسهم يشاطرون ملكهم هذا الاتجاه، مهما كانت الأصوات الداعية لغير ذلك، فمعظم المغاربة الذين يمكن أن تقابلهم فى الشارع، بداية من مسئولى فندق الإقامة ومرورا بالشباب المثقف والشابات الأنيقات، وكذلك رجال الشرطة وضباط الجوازات فى المطارات، ونهاية بالموظفين والقرويين والباعة البسطاء فى الأسواق، مثل سوق "جامع الفنا" فى مراكش القديمة، يشعرون بأنهم استفادوا من الدرس التونسى، واستخلصوا العبر مما حدث فى مصر، ويدركون أن بلادهم يجب ألا تكون حقل تجارب لمراهقى السياسة ومغامريها، خاصة أن للمغرب وضعا خاصا لا يسمح لها بمثل هذه "الشطحات"، بحكم تعدد الأديان والثقافات والأعراق، وأيضا بحكم اعتماد الاقتصاد الوطنى على السياحة وجذب الاستثمارات، وهما قطاعان يحتاجان إلى درجة كبيرة من الاستقرار. وهناك حقيقة لا يمكن إغفالها، وهى أن المغرب كان من أولى الدول العربية التى ضربها الإرهاب، فى تفجيرات الدار البيضاء عام 2003، وأنه خاض معركة شرسة ناجحة مع الإرهاب، انتهت بمنح واشنطن صفة حليف من غير أعضاء حلف شمال الأطلنطى "الناتو" للرباط، ويعرف أبناؤه تمام المعرفة معنى أن يخوض شعب معركة وجود ضد إرهاب لا يرحم، ومن هنا يأتى التعاطف الحالى للقطاع الأكبر من المغاربة مع المصريين بعد ثورة 30 يونيو، مهما بدا غير ذلك. وحتى لو جئنا إلى الحكومة الحالية، فسنجد أن مواقفها المعلنة لا بأس بها، فرئيس الوزراء المغربى نفسه عبد الإله بن كيران كان قد تنصل من تصرفات إخوان مصر فى مقابلة مع موقع قناة "الحرة" يوم 8 أغسطس الماضى، عندما قال بوضوح إن حزب "العدالة والتنمية" الإسلامى المغربى لا ينتمى إلى "مدرسة" الإخوان، بحسب تعبيره، بل هو حزب يعبر عن تيار سياسى وليس دينيا، ويرفض الخلط بينهما، كما أعلن بن كيران رفضه أى محاولة للوقيعة بين الحكومة والقيادة المغربية. ورغم هذه الكلمات، تستطيع أن تستشف بسهولة رائحة الوقيعة بين القاهرة والرباط، ففى المغرب، يوجد البعض ممن لا يزالون يتحدثون عن أزمة التصريحات المسيئة للشعب المغربى، والتى نسبت إلى فنان مصرى كبير وإعلامية تليفزيونية معروفة، رغم أنه يمكن أن يقال الكثير حول حقيقة هذه التصريحات، وملابساتها، وتعبيرها عن القطاع الأكبر من المصريين من عدمه. كما توجد بعض الأطراف التى تروج أيضا إلى وجود تقارب مصرى جزائرى على جميع المستويات فى الأشهر القليلة الماضية، وهو تقارب مقلق بعض الشىء بالنسبة للجانب المغربى، ولكن هذا الأمر أيضا مردود عليه بأن مصر تسعى للتقارب مع جميع الدول العربية والإفريقية، وهو أمر طبيعى تماما، كما أن التقارب المصرى الجزائرى لا يمكن أن يفسر على أنه تحرك سياسى معاد للمغرب، لأنه لا يوجد ما يدعو لمعاداة المغرب من الأساس، حتى وإن كانت هناك خلافات فى الوقت الحالى، لأن الكل يعلم أن سبب هذه الخلافات لن يستمر للأبد، خاصة فى ظل متابعة المواطن المغربى العادى عبر وسائل الإعلام المصرية والعربية تطورات المشهد السياسى المصرى بكل تفاصيله، تماما كما يحرصون على متابعة هذا المواطن نفسه للأعمال الفنية المصرية ومعرفته لأسماء الفنانين والمطربين والإعلاميين، لدرجة أن هناك عددا غير قليل من المغاربة يجيد الحديث باللهجة العامية المصرية. إذن فأسباب ودوافع التعاون والتقارب المصرى المغربى أكثر من أسباب التباعد، وأقوى من الوقيعة، فهى مستندة إلى قيادتين واعيتين، وشعبين متلاحمين، وأوجه التعاون متاحة فى مجال الجذب المتبادل للسائحين والاستثمارات، وفى مجال التبادل التجارى الحر، وفى مجالى الاتصالات والطاقة، فضلا عن المجالات الثقافية والفنية، والتى لم تتوقف أبدا، ولا ننسى أن الاقتصاد المغربى حقق طفرة جيدة فى الأعوام الأخيرة، ولديه نسبة نمو تزيد على 5%، ومتوسط دخل الفرد السنوى زاد على 5 آلاف دولار. إذن، على البلدين القيام بالخطوات اللازمة لذلك بشكل متواز، دون انتظار أو تأخير، ودون انتظار الاستماع إلى الأصوات النشاز.